المبعث النّبويّ الشّريف.. ذكرى ولادة الإسلام

المبعث النّبويّ الشّريف.. ذكرى ولادة الإسلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع)، في حارة حريك، بتاريخ: 27 رجب 1418هـ/ الموافق: 28 تشرين الثّاني 1997م، بحضور حشدٍ من الشخصيَّات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، وجمعٍ غفيرٍ من المؤمنين. وجاء في خطبته الدّينيّة :

الخطبة الأولى

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع)، في حارة حريك، بتاريخ: 27 رجب 1418هـ/ الموافق: 28 تشرين الثّاني 1997م، بحضور حشدٍ من الشخصيَّات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، وجمعٍ غفيرٍ من المؤمنين. وجاء في خطبته الدّينيّة :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[1]، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}[2]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .[3]

اختيار النبيّ للرّسالة

في رواية أهل البيت(ع)، أنَّ يوم السَّابع والعشرين من شهر رجب، هو يوم المبعث النَّبويّ الشَّريف، الَّذي اختار الله فيه نبيَّه لرسالته، بعد أن عاش في مدى أربع سنين يتعهَّده بلطفه ورعايته، ويُلقي عليه كلَّ ما يميِّز الإنسان عن مجتمعه، حتى تكاملت كلّ صفاته، وعاش الرِّسالة قبل أن تنزل عليه، وكانت روحانيَّته الّتي تفيض في عقله وقلبه من خلال معرفته بالله وتوحيده له وإخلاصه له، فكان يذهب إلى غار "حراء" من أجل أن يتأمَّل ويتعبّد ويعيش مع الله وينفصل عن مجتمعه الّذي كان يضجّ بالشّرك، وكان(ص) يعيش التّوحيد في صفائه ونقائه، حتّى بعثه الله بالرّسالة في الأربعين من عمره، ونزل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}[4]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ}[5] .

وانطلق النبيّ(ص) في الإنذار في السّنين الأولى من دعوته، يتحدَّث مع  النّاس بشكلٍ خاصّ، وكان يُلقي إليهم كلمة التّوحيد من دون أن يتحدَّى أوثانهم وأصنامهم، حتى أنزل الله عليه الموقف الصَّلب ضدّ كلّ الوثنيّة التي كانت تعيش هناك، فبدأ القوم يواجهونه بالشدَّة والقسوة التي يفرضونها على المستضعفين من المؤمنين. وانطلق رسول الله(ص) إلى عشيرته أوّلاً، لأنَّ الله تعالى قال له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[6]، وانطلق إلى "أمّ القرى" ومن حولها، لأنَّ الله أراد له أن يتدرَّج في الدَّعوة، فأنذرَ عشيرته أوّلاً، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وكان من اللافت أنّه عندما دعا عشيرته بعد أن أولم لهم، وقال لهم: "من يؤازرني على هذا الأمر يكن أخي ووصيّي... وخليفتي فيكم"، وسكت القوم جميعاً، وقف عليّ(ع) ـ وكان في السنين الأولى من عمر شبابه وفي آخر طفولته ـ وقال: "أنا أؤازرك يا رسول الله"[7]، وكرّر القول ثانياً وثالثاً، وكان عليّ(ع)، في وعيه للرّسالة، وفي إيمانه بالله، وفي ثقته برسول الله، الأوّل إسلاماً والأوّل في استعداده لأن يكون مع رسول الله(ص) في كلّ مواقع جهاده ودعوته، لأنّ عليّاً منذ انفتح على الإسلام مع رسول الله قبل الرّسالة ومعه بعد الرّسالة، وهب حياته لله، فلم يعد لنفسه من نفسه نصيب، بل كان كلّ نصيبه للإسلام.

وانطلق رسول الله(ص) مستفيداً من الموقع الَّذي تعيش فيه مكّة، فقد كانت عاصمة التجارة في منطقة شبه الجزيرة، وكانت العاصمة الدّينيّة التي يفد إليها الحجّاج منذ عهد إبراهيم(ع)، وإن أَدخلت الجاهليّة في الحجّ ما أدخلَته، وكانت العاصمة الثّقافيّة التي ينطلق إليها الشّعراء والخطباء في "سوق عكاظ"، من أجل أن يقرأوا فيها أشعارهم، ويحرّكوا فيها خطاباتهم وما إلى ذلك. وهكذا، كان يقصد الحجَّاج في بيوتهم، وكان هناك من يخبره بمن يأتي من رؤساء العشائر إلى مكَّة ليذهب إليهم وليزورهم في بيوتهم، وليحدِّثهم عن الله وعن الإسلام، وليتلو عليهم ما نزل عليه من القرآن، وليدعوهم إلى الإسلام بعد ذلك.

مراحل الدّعوة

كانت تلك المرحلة هي المرحلة الإعلاميَّة، وكان النبيّ(ص) في غياب وسائل الإعلام آنذاك، يريد أن تكون مكَّة هي موقعه الإعلاميّ الّذي يبعث فيه برسالته إلى النّاس كافّة، لمن آمن بها أو كفر بها، ليذهب الحجيج إلى بلدانهم، ليحدِّثوا أهلها عن هذا الإنسان الّذي جاء يدّعي النبوّة، وكيف وقف قومه ضدّه، وكيف عانى وكيف دعا. إنَّ الإنسان المُصلِح ـ نبيّاً كان أو غيره ـ يستفيد من الّذين يخاصمونه في نقل فكرِهِ أكثر مما يستفيد من الّذين يؤيِّدونه. وهكذا، استفاد النبيّ(ص) من كلّ هؤلاء، حتى الَّذين ليسوا بمؤمنين به، فهم الّذين نقلوا دعوته إلى بلدانهم، وهم الّذين جعلوا الدّعوة الإسلاميّة موضع جدلٍ وخلاف، هذا يؤيّدها وذاك يشجبها.. ومن خلال ذلك، انتقلت دعوته إلى خارج مكّة، وكانت أوّل بلدةٍ انتقلت إليها الدّعوة بعمق هي  "المدينة"، والّتي تُسمّى "يثرب"، لأنَّ اليهود كانوا قد ثقَّفوا أهل المدينة آنذاك بأنّه "سيأتي نبيّ سوف نكون نحن من جماعته"، وكانوا يستفتحون به على الَّذين كفروا، لظنّهم أنه سيسير معهم وسيؤيّدهم، ولكن لما جاءهم بما عرفوا، كفروا به.

لذلك، كان النّاس في المدينة يحدِّث بعضهم بعضاً: ربما كان هذا هو الّذي أخبرنا عنه اليهود، فلننطلق إليه ولنؤمن به، وكانت بيعةً أولى وبيعةً ثانية، وانطلقت "المدينة" لتكون أوّل بلد ينطلق فيه الإسلام ليأخذ فيه حرّيته، ولتكون موضع هجرة النّبيّ(ص) بعد أن يستكمل خطَّته في مكّة. وعاش النبيّ في مكّة الحصار الّذي فُرض على بني هاشم لأنهم نصروه(ص)، وعاش الاضطهاد والشّتم والسبّ والاتهام في رسالته وفي عقله وفي شخصيّته، حتى إنّ عمَّه "أبا لهب" كان يسير وراءه بينما كان يدعو النّاس إلى الإسلام، ليقول: لا تصدِّقوا ابن أخي فإنَّه مجنون.. واستمرَّ النبيّ على الدَّعوة، وعانى وأُوذي، حتى قال(ص): "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"[8]، وانطلق بعد ذلك إلى "الطّائف" ليدعو أهلها، وخرج إليه عُتات أهل الطّائف بالحجارة والسّباب والشّتائم، واستند إلى جذع شجرةٍ، ودعا بذلك الدّعاء الذي ختمه بـ: "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي"[9]. لقد أحبَّ النبيّ(ص) الله الحبَّ كلَّه، وآمن بالله الإيمان كلَّه، ووحّد الله التّوحيد كلّه، فقد كانت كلّ قضيَّته أن يرضى الله عنه ويحبّه ويقرّبه إليه. فما قيمة أن ينطلق النّاس ليكونوا ضدّك إذا كان الله معك؟! وما قيمة أن يكون النّاس معك إذا كان الله ضدّك؟ "ماذا وجد من فقدك، وما الّذي فقد من وجدك"[10]؟!

كانت القضيَّة عند رسول الله(ص)، هي أنَّ هناك رسالةً لا بدَّ من أن يبلّغها، وقال الله له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[11]، وسقط المستهزئون كلّهم، وسقط السَّاخرون كلّهم، وانطلق في وجدان كلِّ مشركٍ قول النبيّ(ص): "والله لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك.."[12]. وهذا الإصرار على أن تكون الرّسالة كلّ شيء في حياته، هو الّذي جعل النبيّ يصبر ويصمد ويتحدَّى ويواجه التحدّي ويعالج الواقع الّذي عاشه، فعندما رأى أصحابه يضعفون، أرسلهم إلى "الحبشة"، لا ليهربوا إلى هناك، ولكن ليستريحوا قليلاً ويقوموا بالدّعوة هناك، وليعرِّفوا ملك الحبشة ما هي الكلمة السَّواء بين الإسلام وبين أهل الكتاب، وليقرأوا لهم القرآن، وليقرِّبوهم إلى الإسلام، أو ليحيِّدوهم عن موقفهم مع المشركين أكثر.. لقد كانت هجرة المسلمين من أجل تحصيل القوَّة، لأنَّ المستضعفين من المسلمين كانوا يشعرون بالاهتزاز أمام قسوة المشركين، ولذلك أراد لهم النبيّ أن يهاجروا ليأخذوا القوّة من جديد، وليدعوا إلى الإسلام. وهكذا رأى المشركون كيف أنَّ الدّعوة الإسلاميَّة قد انتشرت بين النّاس، فقرّروا أن يقتلوه، فعرّفه الله ذلك وهاجر إلى المدينة، ومن هناك، كان الفتح الكبير الّذي استطاع بعد جهدٍ وجهادٍ ودعوة أن يجعل النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً..

مسؤوليَّة حمل الرِّسالة

أيّها الأحبّة، في مولد الإسلام في هذا اليوم، وهو مبعثه(ص)، لا بدَّ لنا من أن نجعله عيداً لنا، نهنّئ فيه بعضنا بعضاً، لأنّه اليوم الذي أخرجنا الله فيه من الظّلمات إلى النّور، ولأنّه اليوم الّذي أنزل الله فيه لنا آياته الّتي تريد لنا أن نقرأ ونتعلَّم ونبدع، وأن نتطلَّع إلى الآفاق، لنرى آيات الله، ولنعرف خلقه، وأن نقود الأمَّة نحو النّور الذي أنزله الله تعالى في كتابه. وإذا كنّا نحتفل بيوم المبعث الشّريف، فإنَّ علينا أن ننظر إلى كلّ هذه المعاناة التي عاناها رسول الله(ص) وأصحابه وأهل بيته(ع) في كلّ الدَّعوة، لنعرف أنَّ الله أراد لكلِّ جيلٍ من النّاس أن يحملوا رسالة الله كما حملها رسوله، فقد كان(ص) المنطلق، فأطلق الرِّسالة وخطَّط لها ووضع لها المناهج وبلَّغها أفضل تبليغ، وركَّز الشّخص الأوّل الّذي عاش الإسلام كلّه ليكون هو الهادي بعد الهادي، "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟... فمن كنت مولاه فعليّ مولاه"[13]، وبعد أن أكمل الرّسالة، وبلّغ ما أنزله الله إليه، نزلت الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[14]، فإذا كان الله قد رضي الإسلام لنا ديناً، وأتمَّ علينا النِّعمة بالنبوَّة أوّلاً، وبالولاية ثانياً، فعلينا أن نشكر هذه النّعمة، وأن نرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا من الإسلام، لنتمسَّك به كما قال رسول الله: "إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا من بعدي؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"[15]، كتاب الله الّذي يمثّل الإسلام في وحي الله، وأهل البيت الَّذين يمثّلون الإسلام في حركة الفكر والواقع.

فلننطلق في هذا الاتجاه، لِنحمِلَ الإسلام في عقولنا فِكراً، وفي قلوبنا حُبّاً، ولنحرّكه في حياتنا حركةً ومنهجاً. إنَّ بعض النّاس قد استبدلوا بالإسلام كفراً، فنحن نرى أنَّ الكفر ينفذ إلى مواقع المسلمين، ويدخل إلى بيوتهم وإلى عاداتهم وتقاليدهم، وأنَّ الاستكبار أعلن حربه على الإسلام، على أساس أنها حرب عالميّة يحارب فيها الإسلام باسم "الإرهاب" تارةً، ليتَّهم المسلمين بالإرهاب، وباسم "التطرّف" ثانية، ليتّهمهم بأنّهم متطرّفون، وباسم "التخلّف والتعصّب" ثالثة، ليقول إنهم متعصّبون، وبكلِّ ما لدى الاستكبار العالميّ من كلماتٍ سلبيَّة حاول أن يحارب بها الإسلام.

ثم انطلق في حربه على الإسلام ليحارب أهله في اقتصادهم، ليكون اقتصادهم على هامش اقتصاده، وليحاربهم في أمنهم، ليكون أمنهم في خدمة أمنه، وليحاربهم في سياستهم، لتكون سياستهم صدى لسياسته، حتى ينزع عن المسلمين كلّ أصالةٍ وقوّةٍ وثقةٍ بالذّات، ليكون المسلمون مجرّد غثاء كغثاء السّيل، لا يُغني ولا ينفع.

الدَّعوة إلى الإسلام

أيّها المسلمون، إنَّ الإسلام أمانة الله في أعناقكم، فليكن كلّ رجلٍ وامرأةٍ منكم رسولاً إلى أهل بيته وأصدقائه، اشغِلوا أنفسكم بالدّعوة إلى الله، فكلّ شخصٍ منكم يحفظ آيةً من آيات القرآن ويعرف معناها، يجب عليه وجوباً عينيّاً ـ لا كفائيّاً ـ أن يبلّغها إلى أهله وإلى الناس من حوله. كونوا الدّعاة إلى الله العاملين في سبيل الإسلام. إنَّ الاستكبار العالمي من جهة، والكفر العالميّ من جهة أخرى، قد تحالفا وتعاونا، كلٌّ في مواقعه السياسيّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، من أجل أن يضعف الإسلام في نفوس المسلمين، إنهم يريدون أن يمنعوا المسلمين من تبليغ الإسلام إلى غيرهم، فقد عانى أصحاب رسول الله الكثير، حتى كان بعضهم يُجلَد بالسّياط في حرارة الشَّمس، وبعضهم تلقى الصّخور على صدره، واستشهد بعضهم كـ"ياسر" وزوجته في التعذيب، وكانوا يريدون لـ "بلال" أن يكفر، وقد كانت السّياط تلهِب ظهره وهو يقول: أحد.. أحد، إنه كان يستلذّ بالكلمة في مقابل كلّ الآلام التي تُفرض عليه.

كان المسلمون الأوَّلون هم الّذين عانوا الكثير وتحمَّلوا الكثير، وكذلك الأئمَّة(ع) بعد رسول الله، فقد تحمَّلوا الكثير، وقد قال الإمام عليّ(ع): "ما ترك لي الحقّ من صديق". إنَّنا نملك في هذه الأيّام الوسائل الكثيرة للدَّعوة إلى الإسلام ولتوعية النّاس بالإسلام، والإعلام يفتح لنا مجالاً كبيراً، لذلك تعلّموا الإسلام في أوقات فراغكم، لا يقُل أحدكم: لا وقت لديّ، لأنّكم تقضون الوقت الطّويل وأنتم مشدودون إلى التّلفزيون، ولأنكم تصرفون الوقت الكثير في سهراتكم وأنتم تلهون وتعبثون، ليتعلّم كلّ واحدٍ منكم في كلّ يوم آيةً من القرآن أو حكماً شرعيّاً أو مفهوماً إسلاميّاً، حتى يكون كلّ واحدٍ منكم داعيةً إلى الإسلام عندما يهاجر وعندما يلتقي بالنّاس...

لذلك، حاولوا أن تتعلَّموا الإسلام، كلّ واحدٍ بحسب طاقته وفراغه، والإمام الصّادق(ع) يقول: "لوددت أنَّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسّياط حتى يتفقّهوا "[16]. لهذا، فلنتحمَّل المسؤوليّة في يوم المبعث، وليقرّر كلّ واحدٍ منّا أن يكون داعيةً لنفسه ولأهله ولكلِّ من يتّصل به، إلى الإسلام، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونتواصى بالحقّ والصّبر..

يوم ولادة الإسلام

في يوم المبعث، ننطلق لنتطلَّع إلى يوم ولادة الإسلام. وفي "يوم الإسراء والمعراج"، نتطلَّع لنرى كيف ينقل الله تعالى، في نطاق المعجزة، نبيَّه في ليلةٍ واحدةٍ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ليلتقي ـ كما يُروى ـ بالأنبياء، وليكون إمامهم هناك، وليريه الله من آياته في الآفاق، وينطلق الله تعالى إلى آفاق الآخرة، إلى الجنّة والنّار، ليريه من آياته، وليثقِّفه في كلّ مواقع الكون والرّسالات..

ومن هنا، كان يوم الإسراء هو يوم الانفتاح على كلِّ الواقع الَّذي أراد الله لنا أن ننفتح عليه، لنفكِّر أن نُطلق الإسلام فيه، وهكذا إذا أسرى الله بكم في المواقع الطبيعيَّة في الإسراء الطّبيعيّ، فانطلقتم إلى أوروبّا أو أميركا أو أستراليا والبرازيل أو أيِّ بلدٍ آخر، فحاولوا أن تنفتحوا على آيات الله وتتحمَّلوا المسؤوليَّة، كلّ بحسب حجمه، في أن تجعلوا كلَّ منطقةٍ تسكنون فيها منطقة إسلاميّة يُذكَر فيها الله ويُعبد فيها، ويدخل النّاس في دين الله أفواجاً، بهذا نكون المسلمين المسؤولين الّذين استجابوا لربهم..

مع الرّسول نولد، وبالرِّسالة نولد، ولنكُن مع رسول الله في حياته عندما انطلق في دعوته، ومعه بعد أن انتقل إلى رحاب ربِّه، لنحمل دعوته كأمانة في أعناقنا، لنقول له غداً عندما نلتقي به أمام حوض الكوثر، ليسقينا بكأسه الأوفى شربةً لا نظمأ بعدها أبداً: يا رسول الله، لقد عشنا حياتنا بالإسلام كما عشتَها، ولقد دعونا إلى الإسلام كما دعوتَ إليه، لقد جاهدنا في سبيل الإسلام كما جاهدت، فهل أدّينا الأمانة؟ فإذا كنّا مخلصين في ذلك، فسيتقبَّلنا هناك لنكون معه في {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[17]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[18].     

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى، وحافظوا على إسلامكم أكثر مما تحافظون على أموالكم، لأنَّ الإسلام هو الّذي يحقِّق لكم النَّجاة في المصير في الدّنيا والآخرة، ولأنَّ السَّير على خطِّ الإسلام هو الَّذي يقرِّبكم إلى الله تعالى ويجعلكم من سكَّان جَنّته، وهو الَّذي يمنحكم رضوان الله سبحانه.. حافظوا على إسلامكم في أنفسكم وفي أهلكم، حافظوا على إسلامكم في مواجهة كلّ التحدّيات الّتي يقوم بها المستكبرون والكافرون في العالم، ليكن كلّ واحدٍ منكم عيناً يرصد بها كلَّ ما يدبّره الآخرون ويخفونه، حتى تتعرّفوا كيف يخطِّط الآخرون لإسقاطكم في أنفسكم ودينكم وأوطانكم..

حافظوا على إسلامكم في وحدة المسلمين في القضايا الأساسيَّة الّتي يلتقون عليها، كونوا الأمَّة الواحدة كما أراد الله لنا أن نكون أمّةً واحدة.. إنَّ المرحلة التي يعيشها الإسلام هي من أقسى المراحل الّتي عاشها في تاريخه، لأنَّه لم يمرّ على الإسلام أيّ عهدٍ من العهود التي يملك فيها الاستكبار أقوى مواقع الإعلام والسياسة والاقتصاد والأمن، ليوجِّه إلى المسلمين حرباً عالميَّة متنوّعة المواقع والأبعاد. لذلك، لا يجوز ـ وأقولها من ناحية شرعيّة فقهيّة ـ أن نُشغل أنفسنا بالكثير مما نختلف فيه، ليسبّ وليكفّر وليفسّق بعضنا وبعضاً، فإنَّ العدوّ العالميّ في مخابراته، ينفذ إلينا من خلال خلافاتنا وعصبيّاتنا، ومن خلال كلّ هذه الهوامش الّتي نثيرها.. فكّروا في الإسلام كيف تتمثّلونه وتتناقشون فيه وتتحاورون فيه، فكِّروا في الاستكبار العالميّ كيف تواجهونه، لأنَّ القوم قد اجتمعوا على إسقاط الإسلام وأهله. لذلك، لا بدَّ من أن تكونوا الواعين جيّداً لكلِّ ما يدور حولكم. فتعالوا لنعرف كيف يخطِّطون لنا، وكيف يحاربوننا، وكيف يعملون على إبعادنا عن المواقع الحقيقيّة، لنعرف ـ ونحن نجتمع بين يدي الله في مواقع المسؤوليّة ـ  كيف نتحرَّك في الخطِّ المستقيم. فماذا هناك؟

أمريكا: إسرائيل أوّلاً!

لقد تحدَّث وزير الدِّفاع الأميركي ـ اليهودي عن سوريا وإيران وليبيا والعراق، باعتبارها مصدراً لأكثر الأخطار الملحَّة، بسبب نشاطها المكثَّف لتصنيع أسلحة نوويّة وكيميائيّة وبيولوجيّة، بحجَّة أنها تشكِّل خطراً على مصالح واشنطن وجنودها أو حلفائها، بينما اعتبر أنَّ إسرائيل لا تشكِّل خطراً على مصالح الولايات المتّحدة الأميركيّة أو على جنودها أو حلفائها، من خلال امتلاكها لأسلحة الدّمار الشّامل، وفي مقدّمها الأسلحة النّوويّة، وكان قد صرّح بأنَّ بلاده "تحرص على أن يكون أمن إسرائيل من أولى أولويّاتها، وتريد لها أن تصبح دولة عظمى"، وندَّد بمحاولة سوريا تطوير أسلحة تعتبرها ردّاً رادعاً على ما تمتلكه إسرائيل من مخزون نوويّ وكيميائيّ وبيولوجي.

إنَّ هذه التَّصريحات الأميركيَّة الّتي تضخِّم خطورة النّظام العراقيّ بأنّه يملك الأسلحة القادرة على إبادة البشريّة جميعاً، تدلّ على أنَّ هناك خطّةً جديدةً لأميركا في المنطقة من أجل هزِّ العصا في وجه الدّول الرافضة للسّياسة الأميركيّة، وتحريك الإعلام لتعبئة الرأي العام الأميركيّ لتأييد أيّ عملٍ عسكريّ ضدّها، ولتبرير ميزانيّات الدّفاع الهائلة والانتشار العسكريّ في أرجاء الأرض كلّها، ودفع كلفة توسيع حلف شمال الأطلسي، ولتقديم "الخارج على القانون" من الدّول، باعتباره خطراً داهماً لا يمكن السّكوت عنه.

إنَّ أميركا لا تمانع أيّ تهديد إسرائيليّ لإيران وسوريا وإخضاعهما لسياستها، وهي تُطلق يد إسرائيل في تهديد المنطقة بأسلحة الدَّمار الشَّامل، لأنَّ ذلك يصبّ في مصالح أمريكا في المنطقة، من أجل ابتزاز أكثر من دولة خليجيّة اقتصاديّاً، للمزيد من خطط الإفلاس الاقتصاديّ، ومنعها من تطوير ثرواتها في نطاق مصالح شعوبها الحيويَّة.

إنَّنا ندعو "المؤتمر الإسلاميّ" القادم، الَّذي سينعقد في طهران، إلى دراسة هذه الخطَّة الأميركيَّة الموجَّهة إلى كلِّ دول العالم الإسلاميّ، والَّتي قد تختلف في سياستها عن سياسة أميركا، وأن تعمل لحماية مصالحها الوطنيَّة من سيطرة المصالح الأميركيَّة.. وعلى هذا المؤتمر ـ في هذه المرحلة الصَّعبة ـ أن يرتفع إلى مستوى حماية شعوبه من الخطر الأميركيّ ـ الإسرائيليّ، باعتبار أنَّ ذلك هو الأولويَّة الكبرى في أبحاثه.

أميركا وإسرائيل وجهان لعملةٍ واحدة

أمَّا على المستوى الفلسطينيّ ـ الإسرائيليّ، فقد طرح "نتنياهو" خطَّةً جديدةً على الفلسطينيّين، تقضي بالانسحاب من 6 إلى 8 في المائة من أراضي الضّفّة الغربيَّة لمصلحة سلطة الحكم الذّاتيّ، مع التّأكيد على حرية إسرائيل في زرع المستوطنات في كلّ أراضيها، وبخاصَّة القدس الشّرقيّة، وفرض الشّروط على سلطة الحكم الذّاتيّ بمكافحة ما تسمِّيهم ـ"الأصوليّين المسلّحين".. في الوقت الّذي أشاد رئيس الاستخبارات الصهيونيّة بالجهود التي يبذلها "عرفات" لمكافحة "الجماعات الإرهابيّة" ـ على حدّ تــعـبـيره ـ وقال: "إنّ عرفات يعمل بالحزم المطلوب ضدّ المجموعات التخريبيّة الفلسطينيّة".

إنَّ إسرائيل تعمل على تخدير الأزمة بينها وبين أميركا، التي تتَّهمها بتعقيد السَّلام الّذي يؤثّر في مصالح أمريكا في المنطقة، ومواجهة مواقف الرّأي العام الدّولي ضدّها، ونحن نشكّ في وجود أزمة أميركيّة ـ إسرائيليّة، ونخشى أن تكون مجرّد تمثيليّة لاحتواء التوتّر العربيّ ضدّ سياسة واشنطن، في الوقت الَّذي لا تحرّك ساكناً ضد الخطوات الصهيونية في الاستيطان وفي المزيد من القتل للشّعب الفلسطينيّ وهدم منازلهم..

إنَّ على الفلسطينيّين الانتباه إلى طبيعة اللّعبة الجديدة التي تلعبها أميركا بالإيحاء إليهم بأنها تقف معهم في هذه المرحلة ضدّ التعنّت الصهيوني، لأنَّ أميركا تقف مع إسرائيل في الاستراتيجيَّة، وتتحرَّك مع الفلسطينيّين بالتّكتيك.

الثّبات والاستقرار في إيران

أمَّا على صعيد الوضع في إيران، فإنَّنا نراقب الإعلام الاستكباريّ الّذي ينظر إلى ما يجري في إيران بأنّه "يذكِّر بجلسات موسكو عشيَّة سقوط الشيوعيّة السوفياتيّة"، وننظر إلى هذا العالم المستكبر، وفي مقدَّمه أمريكا، الَّذي ينتظر أيَّ نقاشٍ في إيران في ظلِّ أجواء الحريَّة الموجودة فيها، للإيحاء بأنَّ النِّظام الإسلاميّ يهتزّ.

إنَّنا نعتقد أنَّ إيران استطاعت أن تصل إلى درجة من القوَّة الدَّاخليَّة بالمستوى الّذي لا يهتزّ استقرارها بأيِّ جدلٍ سياسيّ، بل قد يمثِّل ذلك نوعاً من أنواع العافية الوطنيَّة. ولذلك، فإنَّ هذه الحملة الإعلاميَّة الاستكباريَّة التّشهيريَّة، لن تحقِّق أهدافها في اهتزاز الواقع الإسلاميّ في إيران، وسيرى قادة الدّول الإسلاميَّة في "مؤتمر القمَّة الإسلامي"، أنَّ النّظام في إيران أكثر ثباتاً واستقراراً من أيِّ وقتٍ مضى.

إنّنا ندعو الجميع، ولا سيَّما في ظلِّ ما تخطِّط له الإدارة الأميركيَّة في المنطقة، إلى المزيد من الحيطة والحذر والدقّة في التحرّك، والمراقبة لكلِّ الأوضاع القلِقة المحيطة بإيران، لأنَّ النظام الإسلاميّ هو أمانة الله لدى الجميع.

عجز العدوّ أمام المقاومة

ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ العدوَّ الصّهيونيّ لا يزال يتابع عدوانه على الجنوب والبقاع الغربي بغاراته الجويّة وقصفه البرّي، تغطيةً لعجزه عن مجاراة المقاومة، وقد عبَّر عن هذا العجز رئيس أركانه "شاحاك"، عندما قال: "إنّنا نخوض حرباً حقيقيّةً في لبنان، وليست مجرّد أحداث".

لذلك، لا بدَّ من مراقبة خطط العدوّ يوميّاً، لأنَّ الغدر من أبرز صفاته، ولا بدَّ من الوقوف مع المقاومة بكلِّ فصائلها، والّتي نطالبها بالمزيد من التَّخطيط وتبادل التَّجارب فيما بينها، ومواجهة التحدّيات بالمزيد من التَّخطيط والتَّنفيذ، ومنع استغلال العدوّ لاستقلال كلّ فصيلٍ من المقاومة عن الآخر في عمليّاته الجهاديّة، لأنَّ الوحدة في الحركة ضدّ العدوّ، هي الّتي تهزم العدوّ المحتلّ الّذي لا يزال قادته العسكريّون يتحدّثون أنّ "على الجيش الإسرائيلي الانسحاب من لبنان من طرفٍ واحدٍ ولكن بالتّدريج".. إنَّ على المقاومة أن تضغط بوحدتها وعمليّاتها الجهاديّة على العدوّ لتوسيع مأزقه الأمنيّ والسّياسيّ في احتلاله.

وأخيراً، لقد بدأ النّاس يشعرون بأنّ هناك نوعاً من الجدّية في معالجة الوضع الاقتصاديّ وتجاوز الضّرائب، ولكنّهم يتخوَّفون من التّعقيدات السياسيّة والإداريّة الّتي تعطِّل التّنفيذ لدى أيّ ظرف داخليّ أو خارجي طارئ، ويواجهون مسألة الاستدانة من الخارج بالمزيد من الخطورة، لأنها ترفع رقم الدّين إلى 16 مليار، ما قد يفضي إلى كارثة اقتصاديّة أو أوضاع غير محسوبة في غياب التّخطيط الاقتصادي.. إنّنا نأمل أن ينتبه المسؤولون إلى مستقبل البلد بمسؤوليّة وأمانة.


[1]  [الجمعة: 2].

[2]  [البقرة: 151].

[3]  [الإسراء: 1].

[4]  [المزّمِّل: 5].

[5]  [المدّثر: 1، 2].

[6]  [الشّعراء: 214].

[7]  الإرشاد، الشيخ المفيد، ص 8.

[8]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 39، ص 56.

[9]  المصدر نفسه، ج 19، ص 22.

[10]  المصدر نفسه، ج 95، ص 227.

[11]  [الحجر: 98، 95].

[12]  شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 14، ص 55.

[13]  بحار الأنوار، ج 28، ص 99.

[14]  [المائدة: 3].

[15]  بحار الأنوار، ج 21، ص 387.

[16]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 32.

[17]  [القمر: 55].

[18]  [المطفّفين: 26].

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع)، في حارة حريك، بتاريخ: 27 رجب 1418هـ/ الموافق: 28 تشرين الثّاني 1997م، بحضور حشدٍ من الشخصيَّات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، وجمعٍ غفيرٍ من المؤمنين. وجاء في خطبته الدّينيّة :

الخطبة الأولى

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع)، في حارة حريك، بتاريخ: 27 رجب 1418هـ/ الموافق: 28 تشرين الثّاني 1997م، بحضور حشدٍ من الشخصيَّات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، وجمعٍ غفيرٍ من المؤمنين. وجاء في خطبته الدّينيّة :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[1]، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}[2]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .[3]

اختيار النبيّ للرّسالة

في رواية أهل البيت(ع)، أنَّ يوم السَّابع والعشرين من شهر رجب، هو يوم المبعث النَّبويّ الشَّريف، الَّذي اختار الله فيه نبيَّه لرسالته، بعد أن عاش في مدى أربع سنين يتعهَّده بلطفه ورعايته، ويُلقي عليه كلَّ ما يميِّز الإنسان عن مجتمعه، حتى تكاملت كلّ صفاته، وعاش الرِّسالة قبل أن تنزل عليه، وكانت روحانيَّته الّتي تفيض في عقله وقلبه من خلال معرفته بالله وتوحيده له وإخلاصه له، فكان يذهب إلى غار "حراء" من أجل أن يتأمَّل ويتعبّد ويعيش مع الله وينفصل عن مجتمعه الّذي كان يضجّ بالشّرك، وكان(ص) يعيش التّوحيد في صفائه ونقائه، حتّى بعثه الله بالرّسالة في الأربعين من عمره، ونزل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}[4]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ}[5] .

وانطلق النبيّ(ص) في الإنذار في السّنين الأولى من دعوته، يتحدَّث مع  النّاس بشكلٍ خاصّ، وكان يُلقي إليهم كلمة التّوحيد من دون أن يتحدَّى أوثانهم وأصنامهم، حتى أنزل الله عليه الموقف الصَّلب ضدّ كلّ الوثنيّة التي كانت تعيش هناك، فبدأ القوم يواجهونه بالشدَّة والقسوة التي يفرضونها على المستضعفين من المؤمنين. وانطلق رسول الله(ص) إلى عشيرته أوّلاً، لأنَّ الله تعالى قال له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[6]، وانطلق إلى "أمّ القرى" ومن حولها، لأنَّ الله أراد له أن يتدرَّج في الدَّعوة، فأنذرَ عشيرته أوّلاً، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وكان من اللافت أنّه عندما دعا عشيرته بعد أن أولم لهم، وقال لهم: "من يؤازرني على هذا الأمر يكن أخي ووصيّي... وخليفتي فيكم"، وسكت القوم جميعاً، وقف عليّ(ع) ـ وكان في السنين الأولى من عمر شبابه وفي آخر طفولته ـ وقال: "أنا أؤازرك يا رسول الله"[7]، وكرّر القول ثانياً وثالثاً، وكان عليّ(ع)، في وعيه للرّسالة، وفي إيمانه بالله، وفي ثقته برسول الله، الأوّل إسلاماً والأوّل في استعداده لأن يكون مع رسول الله(ص) في كلّ مواقع جهاده ودعوته، لأنّ عليّاً منذ انفتح على الإسلام مع رسول الله قبل الرّسالة ومعه بعد الرّسالة، وهب حياته لله، فلم يعد لنفسه من نفسه نصيب، بل كان كلّ نصيبه للإسلام.

وانطلق رسول الله(ص) مستفيداً من الموقع الَّذي تعيش فيه مكّة، فقد كانت عاصمة التجارة في منطقة شبه الجزيرة، وكانت العاصمة الدّينيّة التي يفد إليها الحجّاج منذ عهد إبراهيم(ع)، وإن أَدخلت الجاهليّة في الحجّ ما أدخلَته، وكانت العاصمة الثّقافيّة التي ينطلق إليها الشّعراء والخطباء في "سوق عكاظ"، من أجل أن يقرأوا فيها أشعارهم، ويحرّكوا فيها خطاباتهم وما إلى ذلك. وهكذا، كان يقصد الحجَّاج في بيوتهم، وكان هناك من يخبره بمن يأتي من رؤساء العشائر إلى مكَّة ليذهب إليهم وليزورهم في بيوتهم، وليحدِّثهم عن الله وعن الإسلام، وليتلو عليهم ما نزل عليه من القرآن، وليدعوهم إلى الإسلام بعد ذلك.

مراحل الدّعوة

كانت تلك المرحلة هي المرحلة الإعلاميَّة، وكان النبيّ(ص) في غياب وسائل الإعلام آنذاك، يريد أن تكون مكَّة هي موقعه الإعلاميّ الّذي يبعث فيه برسالته إلى النّاس كافّة، لمن آمن بها أو كفر بها، ليذهب الحجيج إلى بلدانهم، ليحدِّثوا أهلها عن هذا الإنسان الّذي جاء يدّعي النبوّة، وكيف وقف قومه ضدّه، وكيف عانى وكيف دعا. إنَّ الإنسان المُصلِح ـ نبيّاً كان أو غيره ـ يستفيد من الّذين يخاصمونه في نقل فكرِهِ أكثر مما يستفيد من الّذين يؤيِّدونه. وهكذا، استفاد النبيّ(ص) من كلّ هؤلاء، حتى الَّذين ليسوا بمؤمنين به، فهم الّذين نقلوا دعوته إلى بلدانهم، وهم الّذين جعلوا الدّعوة الإسلاميّة موضع جدلٍ وخلاف، هذا يؤيّدها وذاك يشجبها.. ومن خلال ذلك، انتقلت دعوته إلى خارج مكّة، وكانت أوّل بلدةٍ انتقلت إليها الدّعوة بعمق هي  "المدينة"، والّتي تُسمّى "يثرب"، لأنَّ اليهود كانوا قد ثقَّفوا أهل المدينة آنذاك بأنّه "سيأتي نبيّ سوف نكون نحن من جماعته"، وكانوا يستفتحون به على الَّذين كفروا، لظنّهم أنه سيسير معهم وسيؤيّدهم، ولكن لما جاءهم بما عرفوا، كفروا به.

لذلك، كان النّاس في المدينة يحدِّث بعضهم بعضاً: ربما كان هذا هو الّذي أخبرنا عنه اليهود، فلننطلق إليه ولنؤمن به، وكانت بيعةً أولى وبيعةً ثانية، وانطلقت "المدينة" لتكون أوّل بلد ينطلق فيه الإسلام ليأخذ فيه حرّيته، ولتكون موضع هجرة النّبيّ(ص) بعد أن يستكمل خطَّته في مكّة. وعاش النبيّ في مكّة الحصار الّذي فُرض على بني هاشم لأنهم نصروه(ص)، وعاش الاضطهاد والشّتم والسبّ والاتهام في رسالته وفي عقله وفي شخصيّته، حتى إنّ عمَّه "أبا لهب" كان يسير وراءه بينما كان يدعو النّاس إلى الإسلام، ليقول: لا تصدِّقوا ابن أخي فإنَّه مجنون.. واستمرَّ النبيّ على الدَّعوة، وعانى وأُوذي، حتى قال(ص): "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"[8]، وانطلق بعد ذلك إلى "الطّائف" ليدعو أهلها، وخرج إليه عُتات أهل الطّائف بالحجارة والسّباب والشّتائم، واستند إلى جذع شجرةٍ، ودعا بذلك الدّعاء الذي ختمه بـ: "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي"[9]. لقد أحبَّ النبيّ(ص) الله الحبَّ كلَّه، وآمن بالله الإيمان كلَّه، ووحّد الله التّوحيد كلّه، فقد كانت كلّ قضيَّته أن يرضى الله عنه ويحبّه ويقرّبه إليه. فما قيمة أن ينطلق النّاس ليكونوا ضدّك إذا كان الله معك؟! وما قيمة أن يكون النّاس معك إذا كان الله ضدّك؟ "ماذا وجد من فقدك، وما الّذي فقد من وجدك"[10]؟!

كانت القضيَّة عند رسول الله(ص)، هي أنَّ هناك رسالةً لا بدَّ من أن يبلّغها، وقال الله له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[11]، وسقط المستهزئون كلّهم، وسقط السَّاخرون كلّهم، وانطلق في وجدان كلِّ مشركٍ قول النبيّ(ص): "والله لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك.."[12]. وهذا الإصرار على أن تكون الرّسالة كلّ شيء في حياته، هو الّذي جعل النبيّ يصبر ويصمد ويتحدَّى ويواجه التحدّي ويعالج الواقع الّذي عاشه، فعندما رأى أصحابه يضعفون، أرسلهم إلى "الحبشة"، لا ليهربوا إلى هناك، ولكن ليستريحوا قليلاً ويقوموا بالدّعوة هناك، وليعرِّفوا ملك الحبشة ما هي الكلمة السَّواء بين الإسلام وبين أهل الكتاب، وليقرأوا لهم القرآن، وليقرِّبوهم إلى الإسلام، أو ليحيِّدوهم عن موقفهم مع المشركين أكثر.. لقد كانت هجرة المسلمين من أجل تحصيل القوَّة، لأنَّ المستضعفين من المسلمين كانوا يشعرون بالاهتزاز أمام قسوة المشركين، ولذلك أراد لهم النبيّ أن يهاجروا ليأخذوا القوّة من جديد، وليدعوا إلى الإسلام. وهكذا رأى المشركون كيف أنَّ الدّعوة الإسلاميَّة قد انتشرت بين النّاس، فقرّروا أن يقتلوه، فعرّفه الله ذلك وهاجر إلى المدينة، ومن هناك، كان الفتح الكبير الّذي استطاع بعد جهدٍ وجهادٍ ودعوة أن يجعل النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً..

مسؤوليَّة حمل الرِّسالة

أيّها الأحبّة، في مولد الإسلام في هذا اليوم، وهو مبعثه(ص)، لا بدَّ لنا من أن نجعله عيداً لنا، نهنّئ فيه بعضنا بعضاً، لأنّه اليوم الذي أخرجنا الله فيه من الظّلمات إلى النّور، ولأنّه اليوم الّذي أنزل الله فيه لنا آياته الّتي تريد لنا أن نقرأ ونتعلَّم ونبدع، وأن نتطلَّع إلى الآفاق، لنرى آيات الله، ولنعرف خلقه، وأن نقود الأمَّة نحو النّور الذي أنزله الله تعالى في كتابه. وإذا كنّا نحتفل بيوم المبعث الشّريف، فإنَّ علينا أن ننظر إلى كلّ هذه المعاناة التي عاناها رسول الله(ص) وأصحابه وأهل بيته(ع) في كلّ الدَّعوة، لنعرف أنَّ الله أراد لكلِّ جيلٍ من النّاس أن يحملوا رسالة الله كما حملها رسوله، فقد كان(ص) المنطلق، فأطلق الرِّسالة وخطَّط لها ووضع لها المناهج وبلَّغها أفضل تبليغ، وركَّز الشّخص الأوّل الّذي عاش الإسلام كلّه ليكون هو الهادي بعد الهادي، "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟... فمن كنت مولاه فعليّ مولاه"[13]، وبعد أن أكمل الرّسالة، وبلّغ ما أنزله الله إليه، نزلت الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[14]، فإذا كان الله قد رضي الإسلام لنا ديناً، وأتمَّ علينا النِّعمة بالنبوَّة أوّلاً، وبالولاية ثانياً، فعلينا أن نشكر هذه النّعمة، وأن نرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا من الإسلام، لنتمسَّك به كما قال رسول الله: "إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا من بعدي؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"[15]، كتاب الله الّذي يمثّل الإسلام في وحي الله، وأهل البيت الَّذين يمثّلون الإسلام في حركة الفكر والواقع.

فلننطلق في هذا الاتجاه، لِنحمِلَ الإسلام في عقولنا فِكراً، وفي قلوبنا حُبّاً، ولنحرّكه في حياتنا حركةً ومنهجاً. إنَّ بعض النّاس قد استبدلوا بالإسلام كفراً، فنحن نرى أنَّ الكفر ينفذ إلى مواقع المسلمين، ويدخل إلى بيوتهم وإلى عاداتهم وتقاليدهم، وأنَّ الاستكبار أعلن حربه على الإسلام، على أساس أنها حرب عالميّة يحارب فيها الإسلام باسم "الإرهاب" تارةً، ليتَّهم المسلمين بالإرهاب، وباسم "التطرّف" ثانية، ليتّهمهم بأنّهم متطرّفون، وباسم "التخلّف والتعصّب" ثالثة، ليقول إنهم متعصّبون، وبكلِّ ما لدى الاستكبار العالميّ من كلماتٍ سلبيَّة حاول أن يحارب بها الإسلام.

ثم انطلق في حربه على الإسلام ليحارب أهله في اقتصادهم، ليكون اقتصادهم على هامش اقتصاده، وليحاربهم في أمنهم، ليكون أمنهم في خدمة أمنه، وليحاربهم في سياستهم، لتكون سياستهم صدى لسياسته، حتى ينزع عن المسلمين كلّ أصالةٍ وقوّةٍ وثقةٍ بالذّات، ليكون المسلمون مجرّد غثاء كغثاء السّيل، لا يُغني ولا ينفع.

الدَّعوة إلى الإسلام

أيّها المسلمون، إنَّ الإسلام أمانة الله في أعناقكم، فليكن كلّ رجلٍ وامرأةٍ منكم رسولاً إلى أهل بيته وأصدقائه، اشغِلوا أنفسكم بالدّعوة إلى الله، فكلّ شخصٍ منكم يحفظ آيةً من آيات القرآن ويعرف معناها، يجب عليه وجوباً عينيّاً ـ لا كفائيّاً ـ أن يبلّغها إلى أهله وإلى الناس من حوله. كونوا الدّعاة إلى الله العاملين في سبيل الإسلام. إنَّ الاستكبار العالمي من جهة، والكفر العالميّ من جهة أخرى، قد تحالفا وتعاونا، كلٌّ في مواقعه السياسيّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، من أجل أن يضعف الإسلام في نفوس المسلمين، إنهم يريدون أن يمنعوا المسلمين من تبليغ الإسلام إلى غيرهم، فقد عانى أصحاب رسول الله الكثير، حتى كان بعضهم يُجلَد بالسّياط في حرارة الشَّمس، وبعضهم تلقى الصّخور على صدره، واستشهد بعضهم كـ"ياسر" وزوجته في التعذيب، وكانوا يريدون لـ "بلال" أن يكفر، وقد كانت السّياط تلهِب ظهره وهو يقول: أحد.. أحد، إنه كان يستلذّ بالكلمة في مقابل كلّ الآلام التي تُفرض عليه.

كان المسلمون الأوَّلون هم الّذين عانوا الكثير وتحمَّلوا الكثير، وكذلك الأئمَّة(ع) بعد رسول الله، فقد تحمَّلوا الكثير، وقد قال الإمام عليّ(ع): "ما ترك لي الحقّ من صديق". إنَّنا نملك في هذه الأيّام الوسائل الكثيرة للدَّعوة إلى الإسلام ولتوعية النّاس بالإسلام، والإعلام يفتح لنا مجالاً كبيراً، لذلك تعلّموا الإسلام في أوقات فراغكم، لا يقُل أحدكم: لا وقت لديّ، لأنّكم تقضون الوقت الطّويل وأنتم مشدودون إلى التّلفزيون، ولأنكم تصرفون الوقت الكثير في سهراتكم وأنتم تلهون وتعبثون، ليتعلّم كلّ واحدٍ منكم في كلّ يوم آيةً من القرآن أو حكماً شرعيّاً أو مفهوماً إسلاميّاً، حتى يكون كلّ واحدٍ منكم داعيةً إلى الإسلام عندما يهاجر وعندما يلتقي بالنّاس...

لذلك، حاولوا أن تتعلَّموا الإسلام، كلّ واحدٍ بحسب طاقته وفراغه، والإمام الصّادق(ع) يقول: "لوددت أنَّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسّياط حتى يتفقّهوا "[16]. لهذا، فلنتحمَّل المسؤوليّة في يوم المبعث، وليقرّر كلّ واحدٍ منّا أن يكون داعيةً لنفسه ولأهله ولكلِّ من يتّصل به، إلى الإسلام، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونتواصى بالحقّ والصّبر..

يوم ولادة الإسلام

في يوم المبعث، ننطلق لنتطلَّع إلى يوم ولادة الإسلام. وفي "يوم الإسراء والمعراج"، نتطلَّع لنرى كيف ينقل الله تعالى، في نطاق المعجزة، نبيَّه في ليلةٍ واحدةٍ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ليلتقي ـ كما يُروى ـ بالأنبياء، وليكون إمامهم هناك، وليريه الله من آياته في الآفاق، وينطلق الله تعالى إلى آفاق الآخرة، إلى الجنّة والنّار، ليريه من آياته، وليثقِّفه في كلّ مواقع الكون والرّسالات..

ومن هنا، كان يوم الإسراء هو يوم الانفتاح على كلِّ الواقع الَّذي أراد الله لنا أن ننفتح عليه، لنفكِّر أن نُطلق الإسلام فيه، وهكذا إذا أسرى الله بكم في المواقع الطبيعيَّة في الإسراء الطّبيعيّ، فانطلقتم إلى أوروبّا أو أميركا أو أستراليا والبرازيل أو أيِّ بلدٍ آخر، فحاولوا أن تنفتحوا على آيات الله وتتحمَّلوا المسؤوليَّة، كلّ بحسب حجمه، في أن تجعلوا كلَّ منطقةٍ تسكنون فيها منطقة إسلاميّة يُذكَر فيها الله ويُعبد فيها، ويدخل النّاس في دين الله أفواجاً، بهذا نكون المسلمين المسؤولين الّذين استجابوا لربهم..

مع الرّسول نولد، وبالرِّسالة نولد، ولنكُن مع رسول الله في حياته عندما انطلق في دعوته، ومعه بعد أن انتقل إلى رحاب ربِّه، لنحمل دعوته كأمانة في أعناقنا، لنقول له غداً عندما نلتقي به أمام حوض الكوثر، ليسقينا بكأسه الأوفى شربةً لا نظمأ بعدها أبداً: يا رسول الله، لقد عشنا حياتنا بالإسلام كما عشتَها، ولقد دعونا إلى الإسلام كما دعوتَ إليه، لقد جاهدنا في سبيل الإسلام كما جاهدت، فهل أدّينا الأمانة؟ فإذا كنّا مخلصين في ذلك، فسيتقبَّلنا هناك لنكون معه في {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[17]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[18].     

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى، وحافظوا على إسلامكم أكثر مما تحافظون على أموالكم، لأنَّ الإسلام هو الّذي يحقِّق لكم النَّجاة في المصير في الدّنيا والآخرة، ولأنَّ السَّير على خطِّ الإسلام هو الَّذي يقرِّبكم إلى الله تعالى ويجعلكم من سكَّان جَنّته، وهو الَّذي يمنحكم رضوان الله سبحانه.. حافظوا على إسلامكم في أنفسكم وفي أهلكم، حافظوا على إسلامكم في مواجهة كلّ التحدّيات الّتي يقوم بها المستكبرون والكافرون في العالم، ليكن كلّ واحدٍ منكم عيناً يرصد بها كلَّ ما يدبّره الآخرون ويخفونه، حتى تتعرّفوا كيف يخطِّط الآخرون لإسقاطكم في أنفسكم ودينكم وأوطانكم..

حافظوا على إسلامكم في وحدة المسلمين في القضايا الأساسيَّة الّتي يلتقون عليها، كونوا الأمَّة الواحدة كما أراد الله لنا أن نكون أمّةً واحدة.. إنَّ المرحلة التي يعيشها الإسلام هي من أقسى المراحل الّتي عاشها في تاريخه، لأنَّه لم يمرّ على الإسلام أيّ عهدٍ من العهود التي يملك فيها الاستكبار أقوى مواقع الإعلام والسياسة والاقتصاد والأمن، ليوجِّه إلى المسلمين حرباً عالميَّة متنوّعة المواقع والأبعاد. لذلك، لا يجوز ـ وأقولها من ناحية شرعيّة فقهيّة ـ أن نُشغل أنفسنا بالكثير مما نختلف فيه، ليسبّ وليكفّر وليفسّق بعضنا وبعضاً، فإنَّ العدوّ العالميّ في مخابراته، ينفذ إلينا من خلال خلافاتنا وعصبيّاتنا، ومن خلال كلّ هذه الهوامش الّتي نثيرها.. فكّروا في الإسلام كيف تتمثّلونه وتتناقشون فيه وتتحاورون فيه، فكِّروا في الاستكبار العالميّ كيف تواجهونه، لأنَّ القوم قد اجتمعوا على إسقاط الإسلام وأهله. لذلك، لا بدَّ من أن تكونوا الواعين جيّداً لكلِّ ما يدور حولكم. فتعالوا لنعرف كيف يخطِّطون لنا، وكيف يحاربوننا، وكيف يعملون على إبعادنا عن المواقع الحقيقيّة، لنعرف ـ ونحن نجتمع بين يدي الله في مواقع المسؤوليّة ـ  كيف نتحرَّك في الخطِّ المستقيم. فماذا هناك؟

أمريكا: إسرائيل أوّلاً!

لقد تحدَّث وزير الدِّفاع الأميركي ـ اليهودي عن سوريا وإيران وليبيا والعراق، باعتبارها مصدراً لأكثر الأخطار الملحَّة، بسبب نشاطها المكثَّف لتصنيع أسلحة نوويّة وكيميائيّة وبيولوجيّة، بحجَّة أنها تشكِّل خطراً على مصالح واشنطن وجنودها أو حلفائها، بينما اعتبر أنَّ إسرائيل لا تشكِّل خطراً على مصالح الولايات المتّحدة الأميركيّة أو على جنودها أو حلفائها، من خلال امتلاكها لأسلحة الدّمار الشّامل، وفي مقدّمها الأسلحة النّوويّة، وكان قد صرّح بأنَّ بلاده "تحرص على أن يكون أمن إسرائيل من أولى أولويّاتها، وتريد لها أن تصبح دولة عظمى"، وندَّد بمحاولة سوريا تطوير أسلحة تعتبرها ردّاً رادعاً على ما تمتلكه إسرائيل من مخزون نوويّ وكيميائيّ وبيولوجي.

إنَّ هذه التَّصريحات الأميركيَّة الّتي تضخِّم خطورة النّظام العراقيّ بأنّه يملك الأسلحة القادرة على إبادة البشريّة جميعاً، تدلّ على أنَّ هناك خطّةً جديدةً لأميركا في المنطقة من أجل هزِّ العصا في وجه الدّول الرافضة للسّياسة الأميركيّة، وتحريك الإعلام لتعبئة الرأي العام الأميركيّ لتأييد أيّ عملٍ عسكريّ ضدّها، ولتبرير ميزانيّات الدّفاع الهائلة والانتشار العسكريّ في أرجاء الأرض كلّها، ودفع كلفة توسيع حلف شمال الأطلسي، ولتقديم "الخارج على القانون" من الدّول، باعتباره خطراً داهماً لا يمكن السّكوت عنه.

إنَّ أميركا لا تمانع أيّ تهديد إسرائيليّ لإيران وسوريا وإخضاعهما لسياستها، وهي تُطلق يد إسرائيل في تهديد المنطقة بأسلحة الدَّمار الشَّامل، لأنَّ ذلك يصبّ في مصالح أمريكا في المنطقة، من أجل ابتزاز أكثر من دولة خليجيّة اقتصاديّاً، للمزيد من خطط الإفلاس الاقتصاديّ، ومنعها من تطوير ثرواتها في نطاق مصالح شعوبها الحيويَّة.

إنَّنا ندعو "المؤتمر الإسلاميّ" القادم، الَّذي سينعقد في طهران، إلى دراسة هذه الخطَّة الأميركيَّة الموجَّهة إلى كلِّ دول العالم الإسلاميّ، والَّتي قد تختلف في سياستها عن سياسة أميركا، وأن تعمل لحماية مصالحها الوطنيَّة من سيطرة المصالح الأميركيَّة.. وعلى هذا المؤتمر ـ في هذه المرحلة الصَّعبة ـ أن يرتفع إلى مستوى حماية شعوبه من الخطر الأميركيّ ـ الإسرائيليّ، باعتبار أنَّ ذلك هو الأولويَّة الكبرى في أبحاثه.

أميركا وإسرائيل وجهان لعملةٍ واحدة

أمَّا على المستوى الفلسطينيّ ـ الإسرائيليّ، فقد طرح "نتنياهو" خطَّةً جديدةً على الفلسطينيّين، تقضي بالانسحاب من 6 إلى 8 في المائة من أراضي الضّفّة الغربيَّة لمصلحة سلطة الحكم الذّاتيّ، مع التّأكيد على حرية إسرائيل في زرع المستوطنات في كلّ أراضيها، وبخاصَّة القدس الشّرقيّة، وفرض الشّروط على سلطة الحكم الذّاتيّ بمكافحة ما تسمِّيهم ـ"الأصوليّين المسلّحين".. في الوقت الّذي أشاد رئيس الاستخبارات الصهيونيّة بالجهود التي يبذلها "عرفات" لمكافحة "الجماعات الإرهابيّة" ـ على حدّ تــعـبـيره ـ وقال: "إنّ عرفات يعمل بالحزم المطلوب ضدّ المجموعات التخريبيّة الفلسطينيّة".

إنَّ إسرائيل تعمل على تخدير الأزمة بينها وبين أميركا، التي تتَّهمها بتعقيد السَّلام الّذي يؤثّر في مصالح أمريكا في المنطقة، ومواجهة مواقف الرّأي العام الدّولي ضدّها، ونحن نشكّ في وجود أزمة أميركيّة ـ إسرائيليّة، ونخشى أن تكون مجرّد تمثيليّة لاحتواء التوتّر العربيّ ضدّ سياسة واشنطن، في الوقت الَّذي لا تحرّك ساكناً ضد الخطوات الصهيونية في الاستيطان وفي المزيد من القتل للشّعب الفلسطينيّ وهدم منازلهم..

إنَّ على الفلسطينيّين الانتباه إلى طبيعة اللّعبة الجديدة التي تلعبها أميركا بالإيحاء إليهم بأنها تقف معهم في هذه المرحلة ضدّ التعنّت الصهيوني، لأنَّ أميركا تقف مع إسرائيل في الاستراتيجيَّة، وتتحرَّك مع الفلسطينيّين بالتّكتيك.

الثّبات والاستقرار في إيران

أمَّا على صعيد الوضع في إيران، فإنَّنا نراقب الإعلام الاستكباريّ الّذي ينظر إلى ما يجري في إيران بأنّه "يذكِّر بجلسات موسكو عشيَّة سقوط الشيوعيّة السوفياتيّة"، وننظر إلى هذا العالم المستكبر، وفي مقدَّمه أمريكا، الَّذي ينتظر أيَّ نقاشٍ في إيران في ظلِّ أجواء الحريَّة الموجودة فيها، للإيحاء بأنَّ النِّظام الإسلاميّ يهتزّ.

إنَّنا نعتقد أنَّ إيران استطاعت أن تصل إلى درجة من القوَّة الدَّاخليَّة بالمستوى الّذي لا يهتزّ استقرارها بأيِّ جدلٍ سياسيّ، بل قد يمثِّل ذلك نوعاً من أنواع العافية الوطنيَّة. ولذلك، فإنَّ هذه الحملة الإعلاميَّة الاستكباريَّة التّشهيريَّة، لن تحقِّق أهدافها في اهتزاز الواقع الإسلاميّ في إيران، وسيرى قادة الدّول الإسلاميَّة في "مؤتمر القمَّة الإسلامي"، أنَّ النّظام في إيران أكثر ثباتاً واستقراراً من أيِّ وقتٍ مضى.

إنّنا ندعو الجميع، ولا سيَّما في ظلِّ ما تخطِّط له الإدارة الأميركيَّة في المنطقة، إلى المزيد من الحيطة والحذر والدقّة في التحرّك، والمراقبة لكلِّ الأوضاع القلِقة المحيطة بإيران، لأنَّ النظام الإسلاميّ هو أمانة الله لدى الجميع.

عجز العدوّ أمام المقاومة

ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ العدوَّ الصّهيونيّ لا يزال يتابع عدوانه على الجنوب والبقاع الغربي بغاراته الجويّة وقصفه البرّي، تغطيةً لعجزه عن مجاراة المقاومة، وقد عبَّر عن هذا العجز رئيس أركانه "شاحاك"، عندما قال: "إنّنا نخوض حرباً حقيقيّةً في لبنان، وليست مجرّد أحداث".

لذلك، لا بدَّ من مراقبة خطط العدوّ يوميّاً، لأنَّ الغدر من أبرز صفاته، ولا بدَّ من الوقوف مع المقاومة بكلِّ فصائلها، والّتي نطالبها بالمزيد من التَّخطيط وتبادل التَّجارب فيما بينها، ومواجهة التحدّيات بالمزيد من التَّخطيط والتَّنفيذ، ومنع استغلال العدوّ لاستقلال كلّ فصيلٍ من المقاومة عن الآخر في عمليّاته الجهاديّة، لأنَّ الوحدة في الحركة ضدّ العدوّ، هي الّتي تهزم العدوّ المحتلّ الّذي لا يزال قادته العسكريّون يتحدّثون أنّ "على الجيش الإسرائيلي الانسحاب من لبنان من طرفٍ واحدٍ ولكن بالتّدريج".. إنَّ على المقاومة أن تضغط بوحدتها وعمليّاتها الجهاديّة على العدوّ لتوسيع مأزقه الأمنيّ والسّياسيّ في احتلاله.

وأخيراً، لقد بدأ النّاس يشعرون بأنّ هناك نوعاً من الجدّية في معالجة الوضع الاقتصاديّ وتجاوز الضّرائب، ولكنّهم يتخوَّفون من التّعقيدات السياسيّة والإداريّة الّتي تعطِّل التّنفيذ لدى أيّ ظرف داخليّ أو خارجي طارئ، ويواجهون مسألة الاستدانة من الخارج بالمزيد من الخطورة، لأنها ترفع رقم الدّين إلى 16 مليار، ما قد يفضي إلى كارثة اقتصاديّة أو أوضاع غير محسوبة في غياب التّخطيط الاقتصادي.. إنّنا نأمل أن ينتبه المسؤولون إلى مستقبل البلد بمسؤوليّة وأمانة.


[1]  [الجمعة: 2].

[2]  [البقرة: 151].

[3]  [الإسراء: 1].

[4]  [المزّمِّل: 5].

[5]  [المدّثر: 1، 2].

[6]  [الشّعراء: 214].

[7]  الإرشاد، الشيخ المفيد، ص 8.

[8]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 39، ص 56.

[9]  المصدر نفسه، ج 19، ص 22.

[10]  المصدر نفسه، ج 95، ص 227.

[11]  [الحجر: 98، 95].

[12]  شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 14، ص 55.

[13]  بحار الأنوار، ج 28، ص 99.

[14]  [المائدة: 3].

[15]  بحار الأنوار، ج 21، ص 387.

[16]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 32.

[17]  [القمر: 55].

[18]  [المطفّفين: 26].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية