يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. من أئمَّة هذا البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الجواد(ع)، الَّذي كان مولده في العاشر من هذا الشَّهر، ولا بدَّ لنا من أن نعيش مع هذا الإمام الَّذي يمكننا أن نسمِّيه "الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته(ع) بدأت وهو في سنِّ الصّبا، وربما تحيّر بعض النّاس في ذلك، ولم يلتفتوا إلى قوله تعالى عن النّبي يحيى(ع): {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}[2].
نبوغ الجواد(ع) وعلمه
ولذلك، بادره الكثيرون من رجال الشّيعة الَّذين قالوا بإمامة آبائه بالسّؤال عن "عويصات" المسائل، ويروي أحد الثّقاة، وهو "عليّ بن إبراهيم"، عن أبيه في كتاب "الكافي"، قال: استأذن على أبي جعفر ـ وهي كنية الإمام الجواد(ع) ـ قوم من أهل النّواحي ـ الأطراف ـ من الشَّيعة، فأذن لهم، فدخلوا، فسألوه في مجلسٍ واحدٍ عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب(ع) وله عشر سنين[3]. وقال الشّيخ "المفيد": كان المأمون ـ الخليفة العباسي ـ قد شُغف بأبي جعفر(ع)، لما رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزّمان، فزوَّجه ابنته "أمّ الفضل"... وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره"[4].
ويروي قصّة ما دار بين المأمون وبين العباسيّين الّذين أنكروا عليه هذا الإكرام للإمام الجواد(ع)، فقال: "لما أراد المأمون أن يزوِّج ابنته "أمّ الفضل" أبا جعفر محمد بن عليّ الجواد(ع)، بلغ ذلك العبّاسيّين، فغلظ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا(ع) ـ لأنّ المأمون كان قد ولّى الإمام الرّضا(ع) ولاية العهد، فخافوا أن يولّي الجواد(ع)، وخصوصاً مع هذه المصاهرة، ولاية العهد كذلك ـ فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله ـ وهم يخاطبون المأمون ـ يا أمير المؤمنين، أن تقيم على هذا الأمر الّذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرّضا، فإنَّا نخاف أن يُخرج به عنّا أمر قد مَلَّكَناه الله ـ وهي الخلافة ـ ويُنزع منّا عزٌّ قد ألبَسَناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم ـ العلويّين ـ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الرّاشدون قبلك من تبعيدهم والتَّصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرّضا ما عملت حتى كفانا الله المهمّ من ذلك ـ بأن قبضه إليه ـ فالله الله أن تردّنا إلى غمٍّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أمَّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَنْ قبلي بهم، فقد كان به قاطعاً للرَّحم، وأعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه عن نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وأمّا أبو جعفر محمد بن عليّ، فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للنّاس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.
فقالوا: إنَّ هذا الفتى، وإن راقك منه هديه، فإنّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدَّب ويتفقَّه في الدّين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم، إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ، عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدِّين والأدب عن الرّعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت من حاله. فقالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشّريعة، فإن أصاب الجواب عنه، لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصَّة وللعامّة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك، فقد كُفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم.
فخرجوا من عنده، واجتمع رأيهم على مسألة "يحيى بن أكثم"، وهو يومئذٍ قاضي الزّمان، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسةٍ على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، فاجتمعوا في اليوم الّذي اتّفقوا عليه، وحضر معهم "يحيى بن أكثم"، فأمر المأمون أن يُفرش لأبي جعفر الجواد(ع) دستٌ وتُجعل له فيه مسورتان، ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع) وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسوّرتين، وجلس "يحيى بن أكثم" بين يديه، وقام النّاس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متَّصل بدست أبي جعفر(ع). فقال "يحيى بن أكثم" للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه "أبن أكثم" وقال: أتأذن لي، جُعلت فداك، في مسألة؟ فقال أبو جعفر(ع): "سلْ إن شئت"، قال يحيى: ما تقول، جعلني الله فداك، في مُحرِم قتل صيداً؟ فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصّيد كان أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في اللّيل كان قتله للصّيد أم نهاراً؟ مُحرِماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً"؟ فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النّعمة والتّوفيق لي في الرّأي. ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل على أبي جعفر(ع) فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ـ يعني أتخطب مني ابنتي وتلقي خطبة الزّواج؟ ـ فقال له: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخطب، جُعلت فداك، لنفسك، فقد رضيتك لنفسي، وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي، وإن رغم قوم لذلك... ـ ثم طلب المأمون من الإمام الجواد(ع) أن يسأل أبن أكثم مسألةً كما سأله ـ فقال له الإمام(ع): "أسألك؟"، فقال: ذاك إليك، جُعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني وإلا استفدته منك.
فقال له أبو جعفر (ع): "أخبرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوَّل النّهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النّهار حلّت له، فلما زالت الشَّمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلَّت له، فلما غربت الشّمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت عشاء الآخرة حلَّت له، فلمّا كان انتصاف اللّيل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلَّت له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه"؟ فقال له يحيى: لا والله، ما أهتدي إلى جواب هذا السّؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه، فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجُلٍ من النّاس، نظر إليها أجنبيّ في أوّل النّهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظّهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفَّر عن الظِهار فحلَّت له، فلما كان نصف اللّيل طلّقها واحدةً فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلَّت له[5]"....
الإمام المعجزة
وهذا ما يجعلنا نقول إنَّه "الإمام المعجزة"، لأنَّه كان في هذا العلم الواسع الَّذي اختصَّه الله به وألهمه إيّاه، كان معجزةً في ذلك، حتى صَغُر كبار علماء زمانه أمامه. وهكذا، انطلق الإمام الجواد(ع) يعيش مع أصحابه ومع النّاس من حوله مسؤوليَّته الإماميَّة في توجيه النّاس وفي تعويدهم على السَّماح والانفتاح حتى مع الّذين يختلفون معه في الرّأي، ولا سيّما إذا كانوا من الأقرباء، وقد جاءه شخصٌ وقال له: إنَّ أبي ناصب ـ من النّواصب ـ خبيث الرّأي ـ يبغضكم ويسبّكم ويعاديكم ـ وقد لقيت منه شدَّة وجهداً، فرأيك في الدّعاء لي وما ترى جُعلت فداك، أفترى أن أكاشفه أو أداريه؟ فكتب الإمام الجواد(ع): "قد فهمت كتابك وما ذكرته من أمر أبيك، ولست أدَع الدّعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة ـ يعني ما دام أنّه أبوك، فحاول باللّطف والحسنى، فلعلَّه يميل إليك وإلى ما أنت فيه بعد ذلك ـ ومع العسر يسر، فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين، ثبَّتك الله على ولاية من تولَّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الّذي لا تضيع ودائعه"[6]. ويقول هذا الرّجل إنّ أباه بعد ذلك انفتح عليه وأصبح لا يخالفه في أيِّ شيءٍ من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.
ويروي بعض أصحابه وهو "أبو هاشم الجعفري" يقول: سمعت أبا جعفر يقول: "إنَّ في الجنّة باباً ـ والذي يحبّ الجنّة فليسمع جيّداً هذه الكلمة وليعمل بها ـ يُقال له "المعروف"، لا يدخله إلا أهل المعروف، فحمدت الله في نفسي ـ فالظّاهر أنّ هذا الرّجل كان وجيهاً يقضي حوائج النّاس ـ وفرحت بما أتكلَّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال لي: "نعم ـ وكأنه قد عرف ما في نفسه ـ فدم على ما أنت عليه، فإنّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة"[7].. فإذا كنت من أهل المعروف في الدّنيا، فإنّ الله يجعلك من أهل المعروف الّذين يدخلون من باب "المعروف" إلى الجنّة...
ويقول(ع) في بعض كلماته: "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال، توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه"[8]، فإذا أردت أن تتوازن في حياتك، وتنفتح على الخير، وتنسجم مع إيمانك، فانّك تحتاج إلى توفيق الله لك للخير، وتوفيق الله لنا لا غنى عنه، فهو الّذي يهدينا ويشجّعنا، وأن يكون لك واعظ من نفسك، هو أن تعتبر بمن كان قبلك وبمن يعيش حولك، للتعرّف كيف يمكن لك أن تتحرّك مع كلّ حسن، وأن تبتعد عن كلّ قبيح، وأن تقبل ممن ينصحك فلا تردّ عليه نصيحته.
توجيهات الجواد(ع)
ثم يقول الإمام الجواد(ع): "من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده ـ فعندما تستغرق في كلام متكلِّمٍ، بحيث تشدّ كلّ فكرك وقلبك إليه، فهذا نوع من العبادة ـ فإن كان النّاطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ـ فيتحدَّث إليك عمّا قال الله ورسوله، فأنت تعبد الله بإصغائك إلى هذا النّاطق، لأنّك تنجذب إلى كلام الله ـ وإن كان النّاطق يؤدّي عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان"[9]، فيتحدَّث بالفتنة والجريمة والخطايا والشرّ، حتى يثير النّاس ويوجِّههم إلى ما لا يُرضي الله، فكأنَّه يستغرق في كلام إبليس. لذلك، عندما تنجذبون إلى أيِّ خطيب، فعليكم أن تعرفوا من يمثّل هذا الخطيب؛ هل يمثّل كلام الله أو أنّه يمثِّل كلام الشّيطان؟
وننطلق معه(ع) في نهاية المطاف لنسمع منه يقول: "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"[10]، فقد لا تكون خائناً، ولكنَّك تدافع عن الخونة وتحمي خيانتهم وتساعدهم، فأنت إذاً من الخائنين، لأن لا فرق بين من يمارس الخيانة ومن يكون مساعداً للخائن في خيانته. فإذا كنتم تريدون أن تساعدوا أحداً في سياسة أو اقتصاد أو أمن أو أيّة حالة من الحالات الّتي يتحرّك فيها النّاس في حياتهم العامَّة، فانظروا من تساعدون؛ هل هو خائنٌ لله ولرسوله وللنّاس، أو هو أمين لله ورسوله والنّاس؟ فإذا كان خائناً، وفِّروا على أنفسكم أن يحسبكم الله من الخائنين، وإذا كان وفيّاً ناصحاً، فكونوا معه..
هذا هو الإمام الجواد(ع) في عظمة علمه وهديه، وهذا هو في وصاياه ومواعظه ونصائحه، لذلك نحن في خطِّ هذا الإمام وخطِّ آبائه وأبنائه، لأنهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، بهم فتح الله وبهم يختم.
عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في كلِّ خطوط الحياة الَّتي أراد الله لكم أن تسيروا فيها؛ والوا من والى الله، وعادوا من عادى الله، وتمسّكوا بالنبيّ(ص) وبأهل بيته(ع)، لأنّه(ص) قال: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"[11]، وقال(ص): "إنّي تارك فيكم الثّقلين، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"[12].. وأهل بيت الرّسول(ع) كجدّهم رسول الله(ص)، عملوا بالحقِّ ووقفوا معه وضحّوا في سبيله، وهم الَّذين كانوا أئمّة العدل في كلِّ مواقفهم، وكان العدل كلَّ دعوتهم وكلامهم ومواقفهم.
لذلك، إذا كنتم تريدون أن تكونوا مع أهل البيت(ع)، فعليكم أن تكونوا العادلين الَّذين يتحركون بالعدل، ويدعون إلى الحقّ، وأن لا تكونوا من الظّالمين، ولا تكونوا معهم وفي خطِّهم من قريبٍ أو بعيد. وعلى ضوء هذا، فإنَّنا في مواقفنا كلِّها، نريد أن نقف مع النّبيّ(ص) وأهل بيته في كلِّ جيلٍ وزمان، أن نقف مع كلِّ قضايا العدل في مصلحة المظلومين، وأن نقف مع كلِّ قضايا المستضعفين ضدَّ المستكبرين، ولذلك لا بدَّ لنا من أن نعرف مع من نقف وعمّن نبتعد، علينا أن نعرف أين هو الظّلم لنحاربه، وأين هو العدل لنقف معه، وهذا ما يقتضينا أن نواجه الموقف في تفاصيله من خلال هذه الأحداث. فماذا هناك؟
الابتزاز الأميركيّ للدّول العربيَّة
لقد هدأت الضّجَّة الَّتي أثارتها أميركا ضدَّ النّظام العراقيّ، والّتي كانت تستهدف من ورائها عرض عضلات القوَّة أمام المنطقة ـ مع حليفتها بريطانيا ـ لتهديد كلِّ من يُراد الضَّغط عليه، بأنَّ أميركا تحرّك أساطيلها من أجل الدّخول في حربٍ مع أيّة دولة تتمرَّد على مصالحها الحيويَّة أو سياستها الدّوليَّة. وهكذا، استطاعت أن تثير الخوف لدى دول الخليج من التحركات العراقيَّة ضدّها، للمزيد من ابتزازها اقتصاديّاً من جهة، ولتأكيد حاجتها إلى الأمن الأميركيّ للحفاظ على أمنها.
وتلك هي السياسة الأميركيّة التقليديَّة التي ترتكز على أساس بقاء النّظام العراقيّ كفزّاعة للدّول المجاورة له، ولاستمرار الضَّغط على الشَّعب العراقيّ بالحصار التّجويعيّ، تحت حجَّة تنفيذ النّظام لشروط الأمم المتَّحدة، في الوقت الَّذي لا تضغط على إسرائيل التي تتمرَّد على كلِّ قراراتها في المنطقة.
إنَّ مجلس الأمن الّذي تحكمه أميركا يمثِّل أكثر الأساليب وحشيّةً في هذا الحصار الوحشيّ ضدّ شعبٍ كامل، ويهدّد كلّ حقوق الإنسان هناك، ولا بدَّ من رفع الصَّوت عالياً من كلّ شعوب العالم بأن "ارفعوا أيديكم عن الشَّعب العراقي".. وإن من الضَّروري للشّعوب ـ ولا سيّما شعوب العالم الثّالث ـ أن تعمل لرفع سيطرة أميركا على مجلس الأمن، الَّذي تحوَّل من مجلس أمن دوليّ إلى مجلس أمن قوميّ أميركيّ، يعمل لمصالح أميركا ضدّ مصالح الشّعوب كلّها.
محاولات خنق حريَّة المجاهدين
أمّا على المستوى الفلسطينيّ، فلا يزال الفلسطينيّون يخضعون للابتزاز الإسرائيليّ في الضَّغط على سلطة الحكم الذّاتي، في فرض الأمن الصّهيوني على كلِّ مقدِّرات الحركة السياسيَّة والأمنيَّة للشَّعب الفلسطيني، وقد بدأت المخابرات الصهيونيّة تدخل في مناطق الحكم الذّاتيّ لتخطف المجاهدين من حركة "حماس"، من دون أن تحرّك سلطة الحكم الذّاتي ساكناً، ما قد يوحي بأنَّ هناك نوعاً من الاتّفاق السرّي بينها وبين الصَّهاينة في القيام بذلك، لتخفيف الإحراج عن هذه السّلطة.
ولا تزال أميركا تتحرَّك للضَّغط على الفلسطينيّين من أجل إعادة القبضة الحديديَّة ضدّ الإسلاميّين المجاهدين، ما يجعل أميركا تعمل للاجتماع مع رؤساء الأجهزة الأمنيَّة الفلسطينيَّة للتّنسيق بينها وبينهم في تنفيذ الشّروط الصّهيونيّة للأمن، وللحديث معهم عن مرحلة ما بعد "عرفات"، الَّذي بدأ الإعلام يتحدَّث عن صحَّته بطريقة سلبيَّة.
إنَّ مشكلة سلطة الحكم الذّاتي أنَّها لا تزال تتحرَّك في حلقةٍ مفرغةٍ في دوَّامة المفاوضات الإسرائيليَّة، تحت المظلّة الأميركيَّة التي ليس لها دور إلا الضَّغط على هذه السّلطة، حتى لا يبقى لها إلا فرصة الخضوع لكلِّ الشّروط الصهيونيّة ـ الأميركيّة.
وعلى الشّعب الفلسطينيّ أن يُراقب الأمور بشكلٍ جيّد، لأنَّ القضيَّة تتَّصل بمصيره النهائي الّذي يعمل الاستكبار الأميركي لمصادرته لحساب إسرائيل.. وعلى شعوب العالم الإسلاميّ أن تبقى مع هذا الشّعب الجريح، من أجل المزيد من القوّة التي تساعده على التّوازن والتّماسك، للحفاظ على هويَّته واستقلاله وحقوقه الشَّرعيَّة.
فشل مؤتمر الدّوحة
ونتوقَّف عند مؤتمر "الدّوحة" الَّذي سقط أمام بعض التَّضامن العربيّ الذي استطاع أن يعزل هذا المؤتمر عن المنطقة الّتي عُقِدَ فيها، وأن يؤكِّد فشل السياسة الأميركيّة، ويعبّر عن إمكانيّة إسقاط هذه السياسة الضَّاغطة على مقدِّرات الشعوب، ولا سيّما شعوب المنطقة.
إنّنا ندعو العرب إلى أن يفكِّروا في المستقبل من موقع المسؤوليّة عن مقدّراتهم ومصالحهم الحيويَّة، وذلك بالمزيد من التّضامن، من أجل القضايا المصيريّة على مستوى الأمن والاقتصاد والسياسة، في مواجهة الخطط الأميركيّة والإسرائيليّة، لأنَّ ذلك هو الّذي يجعلهم في موقع الاحترام من شعوب العالم.. وعلى الشّعوب العربيّة أن تراقب سياسة الأنظمة الّتي قد تعمل على تنفيذ المخطَّطات الأميركيَّة ضدّ المصالح الحقيقيّة للشعوب، بفعل الضّغوط أو التَّحالفات مع أميركا ورؤساء هذه الأنظمة.
مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية
ونصل إلى إيران، لنلاحظ أنَّ العدوَّ الصهيونيّ لا يزال يعمل ـ بالتّحالف مع أميركا ـ من أجل إثارة دول العالم، ولا سيّما الدّول الغربيّة، ضدّ الجمهوريّة الإسلاميَّة، بحجَّة قيامها بالتّخطيط للتسلّح النوويّ والصّاروخيّ الَّذي قد يهدِّد دول الغرب، من أجل التّأثير في الرأي العام فيها. كما أنَّ أميركا لا تزال تتحرك للضّغط على دول العالم، بما فيها الدول الآسيويّة كـ"الصّين"، من أجل منعها من مساعدة إيران في الخبرة التكنولوجيّة، كما أنها تعمل لتعقيد علاقات إيران بدول المنطقة بطريقةٍ وبأخرى، وقد نجحت الجمهوريّة الإسلاميّة في تجاوز الكثير من هذه الضّغوط.
إنّنا نعتقد أنَّ إيران بحاجةٍ في هذه المرحلة الصَّعبة من تاريخها، إلى المزيد من الوحدة والاستقرار، والبُعد عن إثارة أيِّ جدلٍ أو خلافٍ يفرّق الشَّعب ويُشغله عن قضاياه المصيريَّة في التحدّيات التي يواجهها، ونرى أنَّ الوقت ليس ملائماً لإثارة الجدل حول الولاية والقيادة الّتي تمثّل أساس النّظام، ما قد يفسح المجال لأعداء الإسلام أن ينفِّذوا خططهم العدوانيَّة في تهديد سلامة إيران.
وكما نحذِّر من الفتنة الَّتي أثارتها الأجهزة المخابراتيَّة قبل مدَّة في الحوزة العلميّة في "قمّ"، وهنا في لبنان وفي أكثر من مكان، فإنّنا نحذّر من فتنةٍ جديدةٍ أكثر ضراوةً في القضايا المثارة، من دون أن يكون لأطراف الجدل ـ الآن ـ أيّ دخل في ذلك أو أيّ تخطيطٍ له.. إنَّ الحرية الفكريَّة من حقّ الشَّعب، ولا سّيما في المسائل السّياسيّة، ولكن بشرط أن لا تمسّ الأسس الَّتي يرتكز عليها الكيان الإسلاميّ كلّه.. نحن مع قوَّة الجمهوريَّة الإسلاميَّة ومع وحدتها واستقرارها، ولسنا مع الَّذين يثيرون أيّ اهتزاز في داخلها على جميع المستويات.
للابتعاد عن الارتجال السّياسيّ
وعلى صعيدٍ آخر، فإنَّنا ندعو الحركات الإسلاميَّة إلى أن تراقب الأوضاع السياسيَّة في بلدانها وفي المنطقة والعالم، وتبتعد عن سياسة الارتجال في العمل السياسيّ، وعن العشوائيَّة في الأساليب الأمنيَّة، لأنَّ مثل هذه الأعمال الإجراميّة غير المبرّرة إسلامياً، تشوّه صورة الإسلام في العالم، وتفسح المجال لأميركا ولكلِّ دول الغرب للضَّغط على الإسلاميّين في كلّ مكان.
وإنَّ علينا أن نفرّق بين العمليّات الاستشهاديَّة والجهاديّة الموجَّهة ضدّ العدوّ الصهيوني الّذي لا نزال في حالة حرب معه وضدَّ احتلاله لبلادنا، وهذه العمليَّات الَّتي تستهدف المدنيّين والسيّاح في بلدان عربيَّة أو إسلاميّة.
لبنان: الحلّ بالوحدة والتّعاون
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ وزير حرب العدوّ تحدَّث عن أنَّ قوّاته لن تنسحب من الجنوب، لأنّه ـ على حدّ تعبيره ـ "منطقة استراتيجيّة لأمن إسرائيل"، كما أنَّ العدوّ قرَّر تعزيز قواته العسكريَّة في المنطقة المحتلَّة، ووعد بزيادة المساعدات العسكريَّة والماديَّة للعملاء.
إنّنا نعتقد أنَّ ذلك كلّه لن يحقِّق للعدوّ أيّ انتصار، ولن يحلَّ له مشكلته في مأزقه في الاحتلال من النّاحية الأمنيَّة والسياسيَّة، لأنَّ المجاهدين الَّذين يملكون الخبرة والقوَّة والإيمان، لا يسمحون له بالاستقرار في احتلاله.
وعلى الشَّعب اللّبنانيّ والحكومة اللّبنانيّة أن يجعلا احتفالهما بذكرى الاستقلال بالوحدة الوطنيَّة في الوقوف مع المجاهدين، وفي المزيد من التّنسيق بين الجيش اللّبناني والمقاومة، وفي الإصرار على تحرير البلد من الاحتلال، فلا يرتفع إلا صوت المعركة والتّحرير، بعيداً عن كلّ الأساليب السياسيّة التقليديَّة الَّتي توحي للعالم بأنَّ هذا البلد يعيش التخلّف السّياسيّ في صراعاته الدّاخليَّة وفي أوضاعه السياسيَّة.
إنَّ الاحتفال بالاستقلال لا بدَّ من أن يكون انطلاقةً جديدةً من أجل تحرير البلد من الاحتلال، وإبعاده عن الوقوع تحت تأثير احتلال أميركيّ جديد بشكلٍ غير مباشر، لأنَّ أميركا تعمل على تشديد قبضتها على شعوب المنطقة، من أجل تحويلها إلى منطقة أميركيّة في واقعها الأمنيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ.
أمّا على المستوى الدّاخليّ، فلا نزال نتابع الأحاديث الرسميَّة والصَّرخات الشَّعبيَّة حول الوضع الاقتصاديّ الّذي يزداد سوءاً، حتى إنَّ المسؤولين اعترفوا بحجم الخطر على الصَّعيد الاقتصاديّ، وأعلنوا عن استعدادهم للتَّعاون لتطويق الأزمة، لأنَّ السنوات القادمة قد تكون أصعب..
إنَّنا نجدِّد الدَّعوة إلى خطَّة طوارئ اقتصاديَّة يتعاون فيها الجميع من كلِّ المواقع السياسيَّة والاقتصاديّة، من المعارضة والموالاة والحكومة، من أجل الوصول إلى حلٍّ يخفّف من تأثير المشكلة، إذا لم يستطع القضاء عليها، لأنَّ المرحلة الّتي يمرّ بها البلد قد تكون من أصعب المراحل الَّتي تعرّض السَّلامة العامَّة للخطر.
[1] [الأحزاب: 33
[2]مريم: 12].
[3] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 496.
[4]الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 281.
[5]المصدر نفسه، ج 2، ص 181 ـ 286.
[6]بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 50، ص 55.
[7]المصدر نفسه، ج 50، ص 258.
[8]المصدر نفسه، ج 75، ص 358.
[9]وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 27، ص 127.
[10] بحار الأنوار، ج 72، ص 381.