الارتباط بالإسلام في خطِّ الإمام علي(ع)

الارتباط بالإسلام في خطِّ الإمام علي(ع)

ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 18/7/1409هـ/ الموافق: 24 شباط 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[1]. ويقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[2]. وقد جاء في كتب التّفسير، أنَّ هاتين الآيتين نزلتا في الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، فالآية الأولى نزلت عندما أراد له رسول الله(ص) أن يبيت على فراشه ليلة الهجرة، والآية الثّانية نزلت عندما تصدَّق بخاتمه لسائلٍ وهو يصلّي..

انفتاح مبكر على الله

وعندما نعيش ذكرى عليّ(ع) في هذه الأيّام، باعتبار أنَّ ذكرى مولده مرّت في هذا الشَّهر الحرام، فإنّما نريد أن نرتبط بعليّ(ع) ارتباط الخطّ وارتباط الإسلام، باعتباره الإنسان الأوَّل الّذي فتح قلبه للإسلام، فكان أوّل من أسلم مع رسول الله(ص) عندما بعثه الله بالرّسالة، لأنَّه كان آنذاك في حضن رسول الله(ص) وإشرافه ورعايته، ولأنَّ عليّاً ربّي من قبل رسول الله منذ أن كان في أوَّل عمره. ولهذا كان رسول الله يعرف من عقل عليّ وهو طفل، ومن وعيه وهو صبي، ومن روحيّته وهو في تلك السنّ المبكرة، ما لم يعرفه أحد من النّاس، لأنّ الناس لم يكونوا يعرفون عمق عليّ.. ولهذا فإنَّ الَّذين تحدَّثوا عن عليّ أنّه أوّل من أسلم من الصّبيان، وربما كانوا يتحدّثون عن أنَّ عليّاً لم يكن يعيش وعي الإسلام في وعيه، بل في طفولته.

التزم عليّ الإسلام منذ سنّ مبكرة اقتناعاً بهذا الدين. وعلى هذا الأساس، واجه الموقف عندما كان يفكّر في المستقبل، كان عليّ يفكّر في المستقبل ككلّ شخصٍ يرصد المستقبل، ولكنّه لم يفكّر كما يفكّر النَّاس، بأن يكون له مستقبل ماليّ واجتماعيّ، كان يفكِّر عندما انفتح له باب الإسلام وآفاق الله.. أنَّ هذا الانفتاح في روحه على الله، يفرض عليه أن يعمل من أجل أن تكون الحياة كلّها منفتحةً على الله..

لقد اتَّبع عليّ(ع) رسول الله عندما عاش هذه الآية الّتي توجَّه فيها القرآن إلى النّاس كافّةً: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[3]، فأن تحبّ الله، معناه أن تلتزم رسول الله؛ تلك هي علامة أنّك تحبّ الله، فلا يمكن أن تكون محبّاً لله ومنحرفاً عن خطِّ رسول الله، ولا يمكن أن تأمل بأن يحبّك الله وأنت بعيد عن الإسلام، فالحبّ في الإسلام ليس عاطفةً أو شعوراً، بل هو موقف وحركة ومنهج حياة، أن تحبَّ الله، وأن تتبع رسول الله، ولذلك شهد رسول الله لعليّ: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"[4].

وعليّ ليس وحده في هذا الخطّ، فكلّ مسلمٍ يحبّ الله ورسوله من خلال الموقف والاتّباع، فإنَّه يسير في خطِّ عليّ(ع). ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نقف أمام القضيَّة في عمقها وامتدادها، مَنْ مع عليّ؟ إنَّ الّذين هم مع عليّ، هم الَّذين يسيرون مع رسول الله في كلِّ أحكام الإسلام، فعليّ ليس شخصاً نحبّه، ولكنَّه حركة نتحرَّك فيها، وحركة ننطلق من خلالها إلى الله تعالى. إذا كنتم تريدون عليّاً من خلال عواطفكم، فقد استغنى عليّ عن كلِّ العواطف التي أرادت أن تتاجر باسمه وتتزلّف إليه، لأنَّ عليّاً يجب أن يكون قدوتك، لا أن يكون معشوقاً لك، فبعض النّاس يتغزّلون بعليّ، ولكنّ عليّاً يرفض التغزّل وهذا العشق، لأنّه كان عاشقاً لله ومحبّاً له، فإذا أردتم أن تلحقوا بعليّ، فانطلقوا معه في مواقع المحبّة معه، لا في مواقع العشق لشخصه..

إذا كنتم ممن تتمرَّدون على الله، فكيف يحبّكم عليّ؟ وإذا كنتم تحبّون أعداء الله ورسول الله، فهل يجتمع في قلب مؤمن حبّ الله ورسوله وحبّ أعداء الله ورسوله؟

كونوا مع عليّ(ع) الّذي كان خادماً لله، وكان يعفّر جبهته بالتّراب، وكانت أحبّ الكنى إليه ما كنّاه به رسول الله "أبو تراب".

الالتزام المطلق بالإسلام

كان ذلك سرَّ عليّ في عمق حياته؛ أنّه انفتح على الله ورسوله والإسلام، ولهذا فإذا كنّا نريد أن نرتبط به، وأن نكون من شيعته، فشيعة عليٍّ هم شيعة الإسلام، وهم شيعة الله، وشيعة رسول الله، هؤلاء الَّذين لا يتحركون إلا حيث يريد الله منهم أن يتحركوا، ويسالمون من سالم الله، ويحاربون من حارب الله.

ذلك هو معنى أن تكون شيعيّاً لعليّ؛ أن تكون شيعيّاً لله ورسوله ولإسلامه، حتى تثبت لعليِّ أنَّه ليس وحده، فقد مرَّ وقت على عليّ كان وحيداً، وكان لا يستوحش من وحدته.. كان وحده، وكان الكثيرون ينحرفون عن خطِّه، ولكنَّ عليّاً كان يستوحش من الباطل ويأنس بالحقّ ويسير معه، فهل تريدون أن تسيروا معه؟ هل تريدون أن تعطوا مواقفكم له؟!

فكِّروا جيِّداً، لأنَّ عليّاً(ع) من النّاس الّذين يصعب السَّير معهم، فعندما تلتزمهم، قد تشعر بأنّك لست مع الكثيرين من الناس، بل أنت مع القليلين القليلين..

كان عليٌّ يعرف أنَّ الذين يلتزمون به هم العلماء الربّانيون والمتعلّمون على سبيل نجاة، لا الَّذين يعلمون ما يديرون به ألسنتهم، كان عليّ يعرف أنّ الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق ليسوا معه.. فإذا كنت تريد أن تكون مع عليّ، فعليك أن تفكِّر في أنَّ خطَّ عليّ قد يفقرك، وقد يوقعك في البلاء، وقد يدفعك إلى السّجن وإلى التّشريد، وإلى أن تعيش كثيراً من المشاكل في حياتك، كما عاش عليّ كثيراً من المشاكل في حياته.. فإذا كنتم المكَّارين، فعليّ لم يكن المكّار على حساب الحقّ، وإذا كنتم تعتبرون أنَّ تغيير المواقف والخطوط في حياتكم يمكن أن يعطيكم امتيازاً هنا وهناك، فعليّ لم يكن ليغيّر موقفه، ولم يكن يطلب من النّاس أن يصفّقوا له، بل كان يطلب منهم أن يعبدوا الله..

وهكذا كان عليّ يمثّل الخطّ المستقيم، ويريد للناس أن يسيروا في هذا الخطّ. وليس معنى هذا أنّه لم يكن يعرف المرونة، ولكنَّه كان لا يفهمها كما يفهمها البعض، كان الصَّلب في رسالته، المرن عندما تتعرَّض الرّسالة للخطر.. كان عليّ رجل حوار، وكان يعمل على أن يفتح قلب من كان يخالفه على الحقّ؟!

رجل الحوار

كان عليّ رجل الحوار مع كلِّ خصومه، وقد يقول قائل إنّ عليّاً كان رجل حرب، وكان يؤمن بالانتصار العسكريّ لا الفكريّ، ولكنّ عليّاً كان يرفض ذلك، وقد قال لأصحابه عندما استبطأوا قتاله ضدّ أهل الشّام: "أمّا قولكم أكلّ ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ، وأمّا قولكم شكّاً في أهل الشّام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[5].

كان لا يستعجل الحرب، بل يضغط على أعدائه لعلَّهم يهتدون إلى الحقّ، وكان يحبّ لخصومه أن يقتنعوا به، كان يبحث عن الحوار، كان يريد أن يهدي النّاس إلى الحقّ. إنّ عليّاً لم يصنِّف نفسه محارباً يتحرّك من خلال ذهنيّة المحارب، بل كان يصنِّف نفسه داعيةً لله، وهذا ما يجب أن يستفيده المجاهدون في سبيل الله، بأن عليهم أن لا يعتبروا الحرب كلَّ شيء، بل هي مجرّد حركة عندما لا يكون هناك أيّ طريق للهدى..

ثم كيف كان عليّ مع الجماهير؟! إنَّ الحكَّام عادةً يجلسون في بيوتهم وينفصلون عن الجماهير، إلا في حالات معيّنة، ولكنَّ عليّاً كان يطلّ على النّاس دائماً، في كلّ جمعةٍ وفي كلّ وقت، كان يطلّ عليهم ليثقِّفهم سياسيّاً وتربويّاً وروحيّاً، فكان منفتحاً عليهم يخبرهم بكلِّ شيء.. كان عليّ يؤمن بأنَّ على المسؤول أن يطلَّ على الجماهير في كلّ وقت، ليجعل عندهم تعبئة جهاديَّة وسياسيَّة، لأنّ دور الحاكم لا يقتصر على أن يحكم وحسب، بل أن يجعل النّاس واعين للخطّ، حتى يتحركوا في تطبيقهم للإسلام من خلال تقوى الله، وبذلك كان عليّ يطلب من النّاس أن يأتوا إليه ليعلِّمهم.

كان يقول لهم وهو على فراش الموت: "سلوني قبل أن تفقدوني"[6]، وكان يتألّم لأنَّه يملك علماً كبيراً، ولكنَّ النّاس لا يأتون إليه، ويقول: "إنَّ ههنا لعلماً جمّاً (وأشار إلى صدره) لو أصبت له حمله"[7].

ولهذا، لا بدَّ من أن ندقّق في انتمائنا إلى عليّ، فنحن نوظِّف عليّاً في المحاكم الطائفيَّة، ولكنّنا لا ننطلق معه في أحكام الشّريعة..

كانت كلّ حياة عليّ إسلاماً، وكلّ شخصيَّته إسلاماً، وكلّ علاقاته في خطّ الإسلام؛ هذا الإسلام الّذي نستهين منه ونتعقَّد منه ونهرب من طرحه، ونفكِّر كيف نهرب من مسؤوليَّاته، حتى لا يقول النّاس إننا متطرّفون متعصّبون. كان يقال لعليّ هذا الكلام، ولكنّه كان يسخر من ذلك، ونحن لا نزال نخاف؛ نخاف من أن نكون إسلاميّين كما هو الإسلام، لأنَّ أميركا لا تقبل، وأوروبّا لا تقبل، وملوك العرب وغيرهم لا يقبلون.

ثبات الإمام الخميني

وحده الإمام الخميني (حفظه الله) في هذا العصر، الّذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ينقد نفسه والنّاس من حوله، وينطق بكلمة الحقّ حتى لو وقف العالم كلّه أمام كلمة الحقّ، ويعي أنَّ المسألة هي أن يبقى الإسلام عنواناً لكلِّ المسلمين، وحركةً في حياة كلِّ المسلمين، والشِّعار الّذي يرتبط به كلُّ المسلمين، والخطّ الَّذي ترتبط به كلّ القيادات، ولهذا رأيناه في حديثه الأخير، أنّه كان يتحدَّث عن نفسه، ويقول إنَّنا قد أخطأنا الحكم في بداية الثَّورة على البعض، ولهذا لا بدَّ من أن يحكم فيها الّذين يؤمنون بالإسلام كخطٍّ ومنهج.. ثم يلتفت إلى كلِّ الواقع السّياسيّ هناك، لينبِّههم إلى أنَّ هناك وسائل وأساليب تعمل فيها كثير من الخطوط في الخارج على أن تجعل إيران دولة ليبراليَّة لا دولة إسلاميَّة، حتى ترضى أميركا وأوروبّا، وقالها بكلمةٍ حاسمة: ما دمت حيّاً، لن أسمح بذلك، وسأقطع أيدي كلّ من يفعل ذلك.

لم يقلها لتكون شعاراً استعراضيّاً، بل كان يؤكِّد أنَّ الدَّولة ولدت من قلب الثّورة الإسلاميَّة، ومن خلال دماء الشّهداء الإسلاميّين، وتحركت على أساس تضحيات العلماء الربّانيّين الّذين انطلقوا ليقدِّموا الشّهداء، ولذلك، ليس من حقّ أحد أن ينحرف بالثّورة، وقال لهم ليست المشكلة أن لا يرضى الغرب عني، بل أن يرضى الله عني، وهذا هو الّذي يجب أن نفهمه من خلال هذا الصَّفاء الرّوحيّ الإسلاميّ الفكريّ السّياسيّ.

نحن مع العالم من خلال خطوطنا الإسلاميَّة وشخصيّتنا الإسلاميّة، فلماذا يكون من حقّ العالم أن يتحدَّث معنا أو يتعامل معنا من خلال مفاهيمه، ولا يكون من حقِّنا أن نتحدَّث معه من خلال مفاهيمنا؟ إنَّ اللّيبراليّين في العالم يتحدَّثون معنا على أساس ليبراليَّتهم، والماركسيّين يتحدَّثون معنا من خلال ماركسيَّتهم، فلماذا لا يسمح لنا بأن نتحدَّث معهم من خلال إسلامنا!؟ إنَّ الإسلام دعوة للحياة..

فتوى قتل المرتدّ رشدي

لقد قالوا عنّا إنّنا ضعفاء، ولكنَّ الضَّعف لا يمكن أن يسقط إنساناً قويّاً في دينه وفي موقفه، لهذا انطلقت الفتوى الّتي أصدرها الإمام في مسألة سلمان رشدي الَّذي أصدر كتاب "آيات شيطانيّة"، والّذي تهجَّم فيه على رسول الله(ص) بكلّ أسلوبٍ بذيء، فهو لم يتحدَّث بلغة علميَّة، ولكنَّه تحدّث بلغة بذيئة، كما تحدَّث عن زوجات رسول الله بهذه اللّغة نفسها، وتحدَّث عن الإسلام بطريقة مهينة.

لقد أفتى الإمام بإعدامه باعتبار كونه مرتدّاً، ومن المفسدين في الأرض، ولكونه يسبّ رسول الله، وباعتبار كونه يمثِّل واجهةً من واجهات الكافرين، وباعتبار كونه يمثِّل خلفيّةً استعماريّة لإثارة الجوّ ضدَّ الإسلام والمسلمين.

إنَّهم يقولون إنَّ حقوق الإنسان لا تسمح بأن يصدر أيّ شخصٍ فتوى بإعدام آخر، ولا سيَّما إذا كان الآخر من بلدٍ آخر، وإنَّ ذلك يمثِّل بغضاً أعمى وإساءة فكريَّة، وانطلقوا بكلّ ِكلماتهم، وسار معهم بعض المسلمين الَّذين غذَّاهم الغرب بمفاهيمه وبثقافته وبكلِّ أساليبه، إنَّهم يخافون أن يتحدَّث الغرب عنّا بأنّنا متعصّبون.. كما أنَّ الدول الإسلاميّة انطلقت بطريقة خجولة، وبعض النّاس يقولون إنّه لا بدَّ من أن نؤلّف كتاباً ضدّه، والبعض يرى أن نقدِّم دعوى ضدّه في المحاكم البريطانيّة.. لقد أحرج الإمام القائد الواقع كلَّه، واستطاع أن يعدمه، وبعض النّاس يقولون إنَّه أعطاه دعايةً أكثر، ولكنَّ الواقع أنَّ هذه الفتوى استطاعت أن تصدم كلَّ الواقع الإسلاميّ المتهالك أمام الغرب.

وعمل الغرب على حصار إيران، وجعلوا من القضيَّة قضيَّة سياسيّة كبرى، واستطاعت الفتوى أن تكشف الخلفيَّات السياسيَّة التي تقف وراء الكتاب، وأنَّ الغرب لا يزال يعيش عقليّة مبغضة للإسلام والمسلمين.

نقول لكم: قد تكون عندكم مبادئ لحقوق الإنسان، ولكنَّنا كمسلمين نملك أيضاً مبادئ لحقوق الإنسان، ونحن نختلف معكم في كثيرٍ من هذه المبادئ. إنكم ترون أنَّ للإنسان الحريَّة حتى عندما يسيء إلى مقدَّسات الآخرين، ولكنّنا لا نوافق على ذلك، وعندنا مفاهيمنا الإسلاميّة التي شرَّعها الإسلام، وهذا ما لا تختلف عليه كلّ المذاهب الإسلاميَّة، فارجعوا إلى كل كتب الفقهاء والمذاهب، وستجدون أنَّ الحكم واحد.

نحن لسنا ضدّ حريّة الفكر، وقد عرف التّاريخ، ومن خلال القرآن، أنَّ الإسلام يعمل على أساس أن يخوض الصِّراع الفكريّ مع كلّ الّذين يطرحون الفكر المضادّ، لكنَّ هناك فرقاً بين من يطرح أمامك فكراً بطريقة علميّة، ومن يطرح كلاماً بذيئاً يشتمل على سبابٍ وشتائم واتهامات بطريقةٍ فاحشة بذيئة. هذا الكتاب لم يطرح فكراً حتى تناقشه على أساس الفكر، هذا سبّ لنبيّنا وإسلامنا، ولا يتعلَّق بحريّة الفكر، بل يتعلَّق بردِّ العدوان، فكيف من حقّنا أن نواجه من يعتدي على أرضنا وبلدنا، وليس من حقّنا أن نواجه من يعتدي على مقدَّساتنا!؟ إنَّ المقدَّسات عندنا أخطر من الأرض والوطن وكلّ ذلك.

أمَّا أن يقال: إنَّ المرتدّين كثيرون، فلماذا اخترتم هذا الشَّخص؟ فلأنّه جاء محمَّلاً بكلِّ الخطط الاستعماريّة الغربيّة ضدّ الإسلام، وإلا ما معنى موقف الدّول الغربيّة كلّها منه؟!

إنَّ كثيراً من المسلمين وغيرهم يستهينون بمسألة ارتباطنا بالإسلام ورسول الله، ونحن نقول إنَّ العالم المستكبر يقف لحماية شخصٍ واحد، ولكنَّه لا يقف لحماية مقدَّسات مليار مسلم، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنّ الغرب يحمي الَّذين يكيدون للإسلام، لأنّه لا يريد للإسلام أن ينطلق.

لهذا نحن مع الإمام الخميني في ذلك، لأنّه انطلق من مواقفه الفقهيَّة الإسلاميَّة، وليرض من يرضى، وليغضب من يغضب، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[8].

وفي هذه المناسبة، ونحن نذكر الإمام الخميني، أودّ أن أشير إلى أنَّني تحدَّثت إليه، وأراد مني أن أبلغكم سلامه وتحيّاته ودعواته، وأن أطلب إليكم باسمه أن تظلّوا ملتزمين بالإسلام كلّه، وأن لا تجاملوا أبداً على حساب الإسلام، وأن تنطلقوا في خطّ الإسلام، وأن تكونوا إخوةً كما أراد الله. تلك هي رسالته الَّتي أرادني أن أبلغكم إيّاها، وإنّني أحمد الله على أنّه بخير في جسمه وفي صحّته، بالرّغم من كلّ الدّعايات المضلّلة.

لبنان: للحفاظ على التّوافق

وفي هذا الجوّ، لقد كان الإمام مرتاحاً، كما كان كلّ القياديّين في الجمهورية الإسلاميّة، للاتّفاق الذي حصل بين حركة أمل وحزب الله، والّذي أنهى القتال المرير الذي أثار كثيراً من الأوضاع والتّعقيدات. ويراد لهذا الاتّفاق أن ينجح ويتركَّز ويلتزمه الجميع بشكلٍ حكيمٍ ومتوازن، حتى يستطيعوا أن يعودوا إخواناً يتحركون من موقع الإخوّة في مواجهة التحدّيات الكبيرة، سواء على مستوى واقع الاستكبار العالمي، أو على مستوى الواقع الصّهيوني المتمثّل بإسرائيل التي تعمل على أن تخطّط بكلِّ ما عندها من وسائل، وبكلّ ما تملك من تحالفات، ولا سيَّما مع أميركا، في سبيل تثبيت وضعها في المنطقة الحدوديّة، وفي سبيل تحويل النّاس هناك إلى أكياس رمل بشريّة يدافعون عنها ضدّ أهلهم. كما أنّنا نحتاج إلى هذه الوحدة وإلى هذا التّرابط من أجل مواجهة الأوضاع الدّاخليّة التي تريد أن تبني للبنان وضعاً جديداً بطريقةٍ وبأخرى.

إنَّ علينا أن نواجه الواقع كلَّه بوعي، وأقول للجميع في هذا المجال، لقد كنت أدعوكم دائماً أن تجتمعوا وتتحاوروا، ونحمد الله أنّكم اجتمعتم واكتشفتم كثيراً من النقاط المضيئة في علاقاتكم، ومن الأخطاء الّتي وقعتم فيها هنا وهناك، وعلينا أن لا نثير الماضي في الخطابات والتّصريحات، لأنَّ الصّلح الّذي يقوم على أساس إيجاد مرحلةٍ جديدة، قد تنسب إليه الكثير من الأحاديث الّتي يتحدّث بها كثير من الناس من أجل إثارة الماضي..

ليس هذا هو وقت التحدّث عن الماضي، إنَّه وقت لملمة الجراح، وجمع الحسابات، ووقت الانفتاح على القضيّة الكبيرة، والبحث عن مواقع اللّقاء فيما بينكم. إننا نقول لكلّ من يملك الكلمة، خطيباً كان، أو مصرّحاً للصّحف، أو متحدّثاً في الصّالونات: إنّ الكلمة مسؤوليّة كبيرة، وعلينا أن لا نحركها إلا في اتجاه السَّلام فيما بيننا.

ولا يكفي أن تجتمع القيادات من هنا وهناك. إنّني أقول للقواعد إنّها يجب أن تجتمع مع بعضها البعض، وأن تكتشف أسس اللّقاء، والأسباب التي تحركت لتبعدها عن خطِّ التلاحم، فما حصل كان حرباً من أقسى الحروب، ولم تكن الكلمات الّتي تثار تستطيع أن تبني مجتمعاً. لهذا لا بدَّ من أن نأخذ بقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[9]، وحاولوا أن تتفادوا الكثير من العقد، فيما يمكن أن يثبت الأرض وأن يبعدنا عن هذه التّجربة في المستقبل. علينا أن نتّقي الله، وأن نستمع إلى كلمة الإمام عليّ(ع): "اتّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"[10].

أهميّة الوحدة والتّعاون

إنّنا نبارك هذا الاتفاق، ونشكر الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والجمهورية العربية السورية، على هذا الإنجاز المهمّ، وعلينا أن نراقب الواقع فيما يدور في البلد، لأنَّ هناك الكثير من الأحاديث تهيّئ للنّاس أنّ المسألة على قاب قوسين أو أدنى، ولكنّنا نحتاج إلى مراقبة كثيرة للواقع، وإلى رصدٍ كبير للتحريمات والاجتهادات، وربما رأى الكثيرون في اجتماعات اللّجنة العربيّة الكثير من الآفاق المشرقة الكبيرة، ولكن علينا أن نفهم حقيقة سياسيّة في البلد، وهو أنه لم تكن المشكلة في لبنان أنّ العرب لا يفهمون رأي اللّبنانيين، أو أنهم لا يعرفون ماذا يقول رؤساء الطّوائف والسياسيّون، لقد أصبحت المسألة اللّبنانية معروفة بكلّ خلافاتها وتعقيداتها، وبكلّ الطروحات التي تتحرّك في إمكانيّة حلّ المشاكل، سواء المشكلة الرئاسيّة أو حلّ الأزمة اللبنانيّة.

إنّ ما قيل وما تحركت به كلّ اللّقاءات والاجتماعات، وكل ما يتحدث به السياسيون والقادة الروحيّون، هو اجترار لما تحدَّثوه سابقاً. والمسألة لم تكن اجتماع القيادات الرّوحيّة حتى نستبشر بقمّة روحيّة هنا أو في الكويت، لأنّ المسألة هي أنّه لا يسمح لما يسمّى بالقادة الروحيّين أن يتحركوا في مشروع سياسيّ، لأنَّ البلاد العربيّة ليست مستعدّة لأن ترضى بالدَّور الفاعل لما يسمّى برجال الدّين في السياسة، ولكن المسألة هي أنّ هناك أدواراً يراد لها أن تظهر.

المسألة ليست مسألة السياسيّين أو القادة الروحيّين، والقصّة في لبنان ليست أن نبحث عن حلّ فيما يتحدّث به الجميع، ولكن هناك جهات فاعلة في المسألة اللّبنانيّة، فما هو رأيها؟ وما هو موقفها؟ لا تسألوا اللّبنانيّين ما هو رأيهم، فأنتم تعرفون أنهم قالوا كلّ شيء، ولم يعد عندهم شيء يقولونه.

إنَّ العرب لا بدَّ من أن يسألوا أنفسهم، ولا بدّ من أن يتعرفوا العمق السياسي الأمني في المسألة الإقليميّة والدولية، وعند ذلك يستطيعون أن يوفّروا الكثير من ميزانيّات المآدب والمطاعم والفنادق. أعطونا كلّ هذه الأموال لنصرفها على المستضعفين، وابعثوا لنا موظَّفاً يجمع كل هذه الملفات.

المسألة في لبنان كانت من خلال صراعاتكم، فهل تريدون أن تحلّوا المشكلة؟ حلّوا مشكلة الجامعة العربيّة، مجلس التعاون العربي، ومجلس المغاربة وغير ذلك! تماماً كما هم اللّبنانيون؛ مجلسٌ ملّيٌّ هنا ومجلس ملّيٌّ هناك؟ لقد تعلَّمنا منكم كيف نختلف، وتعلَّمتم من ذلك، أو أنّنا من فصيلة واحدة تعرف الخلاف ولا تتعرّف اللّقاء!

إنكم تتحركون في السّطح، فلماذا لا تتحركون في العمق؟ ونحن لا نزال نتحرّك في السّطح في لبنان، وإذا تحركنا في العمق قد نعرف المسألة في حقيقتها.

إنّنا نحبّ أحلام السّلام، ولكننا لا نريد أحلاماً تجعلنا نعيش في المستقبل هواجس الحرب، بل نريد سلاماً حقيقيّاً، لا أن تحدث حرب هنا وهناك، ويقول الناس إنها تعقيدات، فإنَّ دماءنا أثمن من كلّ ذلك. أيّها النّاس، لا تستعجلوا الحكم والتّفاؤل، وارصدوا الخلفيّات جيّداً، لعلّنا نجد هناك شيئاً يبعث على التَّفاؤل أو التَّشاؤم، إنَّ المسألة مسألة العمق لا السَّطح.


[1] [البقرة: 207].

[2] [المائدة: 55].

[3] [آل عمران: 31].

[4] الكافي، الشّيخ الكليني، ج 8، ص 351.

[5] نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ(ع)، ج 1، ص 104.

[6] المصدر نفسه، ج 2، ص 130.

[7] المصدر نفسه، ج 4، ص 37.

[8] [الكهف: 29].

[9] [الحجرات: 10].

[10] نهج البلاغة، ج 2، ص 80.

ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 18/7/1409هـ/ الموافق: 24 شباط 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[1]. ويقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[2]. وقد جاء في كتب التّفسير، أنَّ هاتين الآيتين نزلتا في الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، فالآية الأولى نزلت عندما أراد له رسول الله(ص) أن يبيت على فراشه ليلة الهجرة، والآية الثّانية نزلت عندما تصدَّق بخاتمه لسائلٍ وهو يصلّي..

انفتاح مبكر على الله

وعندما نعيش ذكرى عليّ(ع) في هذه الأيّام، باعتبار أنَّ ذكرى مولده مرّت في هذا الشَّهر الحرام، فإنّما نريد أن نرتبط بعليّ(ع) ارتباط الخطّ وارتباط الإسلام، باعتباره الإنسان الأوَّل الّذي فتح قلبه للإسلام، فكان أوّل من أسلم مع رسول الله(ص) عندما بعثه الله بالرّسالة، لأنَّه كان آنذاك في حضن رسول الله(ص) وإشرافه ورعايته، ولأنَّ عليّاً ربّي من قبل رسول الله منذ أن كان في أوَّل عمره. ولهذا كان رسول الله يعرف من عقل عليّ وهو طفل، ومن وعيه وهو صبي، ومن روحيّته وهو في تلك السنّ المبكرة، ما لم يعرفه أحد من النّاس، لأنّ الناس لم يكونوا يعرفون عمق عليّ.. ولهذا فإنَّ الَّذين تحدَّثوا عن عليّ أنّه أوّل من أسلم من الصّبيان، وربما كانوا يتحدّثون عن أنَّ عليّاً لم يكن يعيش وعي الإسلام في وعيه، بل في طفولته.

التزم عليّ الإسلام منذ سنّ مبكرة اقتناعاً بهذا الدين. وعلى هذا الأساس، واجه الموقف عندما كان يفكّر في المستقبل، كان عليّ يفكّر في المستقبل ككلّ شخصٍ يرصد المستقبل، ولكنّه لم يفكّر كما يفكّر النَّاس، بأن يكون له مستقبل ماليّ واجتماعيّ، كان يفكِّر عندما انفتح له باب الإسلام وآفاق الله.. أنَّ هذا الانفتاح في روحه على الله، يفرض عليه أن يعمل من أجل أن تكون الحياة كلّها منفتحةً على الله..

لقد اتَّبع عليّ(ع) رسول الله عندما عاش هذه الآية الّتي توجَّه فيها القرآن إلى النّاس كافّةً: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[3]، فأن تحبّ الله، معناه أن تلتزم رسول الله؛ تلك هي علامة أنّك تحبّ الله، فلا يمكن أن تكون محبّاً لله ومنحرفاً عن خطِّ رسول الله، ولا يمكن أن تأمل بأن يحبّك الله وأنت بعيد عن الإسلام، فالحبّ في الإسلام ليس عاطفةً أو شعوراً، بل هو موقف وحركة ومنهج حياة، أن تحبَّ الله، وأن تتبع رسول الله، ولذلك شهد رسول الله لعليّ: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"[4].

وعليّ ليس وحده في هذا الخطّ، فكلّ مسلمٍ يحبّ الله ورسوله من خلال الموقف والاتّباع، فإنَّه يسير في خطِّ عليّ(ع). ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نقف أمام القضيَّة في عمقها وامتدادها، مَنْ مع عليّ؟ إنَّ الّذين هم مع عليّ، هم الَّذين يسيرون مع رسول الله في كلِّ أحكام الإسلام، فعليّ ليس شخصاً نحبّه، ولكنَّه حركة نتحرَّك فيها، وحركة ننطلق من خلالها إلى الله تعالى. إذا كنتم تريدون عليّاً من خلال عواطفكم، فقد استغنى عليّ عن كلِّ العواطف التي أرادت أن تتاجر باسمه وتتزلّف إليه، لأنَّ عليّاً يجب أن يكون قدوتك، لا أن يكون معشوقاً لك، فبعض النّاس يتغزّلون بعليّ، ولكنّ عليّاً يرفض التغزّل وهذا العشق، لأنّه كان عاشقاً لله ومحبّاً له، فإذا أردتم أن تلحقوا بعليّ، فانطلقوا معه في مواقع المحبّة معه، لا في مواقع العشق لشخصه..

إذا كنتم ممن تتمرَّدون على الله، فكيف يحبّكم عليّ؟ وإذا كنتم تحبّون أعداء الله ورسول الله، فهل يجتمع في قلب مؤمن حبّ الله ورسوله وحبّ أعداء الله ورسوله؟

كونوا مع عليّ(ع) الّذي كان خادماً لله، وكان يعفّر جبهته بالتّراب، وكانت أحبّ الكنى إليه ما كنّاه به رسول الله "أبو تراب".

الالتزام المطلق بالإسلام

كان ذلك سرَّ عليّ في عمق حياته؛ أنّه انفتح على الله ورسوله والإسلام، ولهذا فإذا كنّا نريد أن نرتبط به، وأن نكون من شيعته، فشيعة عليٍّ هم شيعة الإسلام، وهم شيعة الله، وشيعة رسول الله، هؤلاء الَّذين لا يتحركون إلا حيث يريد الله منهم أن يتحركوا، ويسالمون من سالم الله، ويحاربون من حارب الله.

ذلك هو معنى أن تكون شيعيّاً لعليّ؛ أن تكون شيعيّاً لله ورسوله ولإسلامه، حتى تثبت لعليِّ أنَّه ليس وحده، فقد مرَّ وقت على عليّ كان وحيداً، وكان لا يستوحش من وحدته.. كان وحده، وكان الكثيرون ينحرفون عن خطِّه، ولكنَّ عليّاً كان يستوحش من الباطل ويأنس بالحقّ ويسير معه، فهل تريدون أن تسيروا معه؟ هل تريدون أن تعطوا مواقفكم له؟!

فكِّروا جيِّداً، لأنَّ عليّاً(ع) من النّاس الّذين يصعب السَّير معهم، فعندما تلتزمهم، قد تشعر بأنّك لست مع الكثيرين من الناس، بل أنت مع القليلين القليلين..

كان عليٌّ يعرف أنَّ الذين يلتزمون به هم العلماء الربّانيون والمتعلّمون على سبيل نجاة، لا الَّذين يعلمون ما يديرون به ألسنتهم، كان عليّ يعرف أنّ الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق ليسوا معه.. فإذا كنت تريد أن تكون مع عليّ، فعليك أن تفكِّر في أنَّ خطَّ عليّ قد يفقرك، وقد يوقعك في البلاء، وقد يدفعك إلى السّجن وإلى التّشريد، وإلى أن تعيش كثيراً من المشاكل في حياتك، كما عاش عليّ كثيراً من المشاكل في حياته.. فإذا كنتم المكَّارين، فعليّ لم يكن المكّار على حساب الحقّ، وإذا كنتم تعتبرون أنَّ تغيير المواقف والخطوط في حياتكم يمكن أن يعطيكم امتيازاً هنا وهناك، فعليّ لم يكن ليغيّر موقفه، ولم يكن يطلب من النّاس أن يصفّقوا له، بل كان يطلب منهم أن يعبدوا الله..

وهكذا كان عليّ يمثّل الخطّ المستقيم، ويريد للناس أن يسيروا في هذا الخطّ. وليس معنى هذا أنّه لم يكن يعرف المرونة، ولكنَّه كان لا يفهمها كما يفهمها البعض، كان الصَّلب في رسالته، المرن عندما تتعرَّض الرّسالة للخطر.. كان عليّ رجل حوار، وكان يعمل على أن يفتح قلب من كان يخالفه على الحقّ؟!

رجل الحوار

كان عليّ رجل الحوار مع كلِّ خصومه، وقد يقول قائل إنّ عليّاً كان رجل حرب، وكان يؤمن بالانتصار العسكريّ لا الفكريّ، ولكنّ عليّاً كان يرفض ذلك، وقد قال لأصحابه عندما استبطأوا قتاله ضدّ أهل الشّام: "أمّا قولكم أكلّ ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ، وأمّا قولكم شكّاً في أهل الشّام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[5].

كان لا يستعجل الحرب، بل يضغط على أعدائه لعلَّهم يهتدون إلى الحقّ، وكان يحبّ لخصومه أن يقتنعوا به، كان يبحث عن الحوار، كان يريد أن يهدي النّاس إلى الحقّ. إنّ عليّاً لم يصنِّف نفسه محارباً يتحرّك من خلال ذهنيّة المحارب، بل كان يصنِّف نفسه داعيةً لله، وهذا ما يجب أن يستفيده المجاهدون في سبيل الله، بأن عليهم أن لا يعتبروا الحرب كلَّ شيء، بل هي مجرّد حركة عندما لا يكون هناك أيّ طريق للهدى..

ثم كيف كان عليّ مع الجماهير؟! إنَّ الحكَّام عادةً يجلسون في بيوتهم وينفصلون عن الجماهير، إلا في حالات معيّنة، ولكنَّ عليّاً كان يطلّ على النّاس دائماً، في كلّ جمعةٍ وفي كلّ وقت، كان يطلّ عليهم ليثقِّفهم سياسيّاً وتربويّاً وروحيّاً، فكان منفتحاً عليهم يخبرهم بكلِّ شيء.. كان عليّ يؤمن بأنَّ على المسؤول أن يطلَّ على الجماهير في كلّ وقت، ليجعل عندهم تعبئة جهاديَّة وسياسيَّة، لأنّ دور الحاكم لا يقتصر على أن يحكم وحسب، بل أن يجعل النّاس واعين للخطّ، حتى يتحركوا في تطبيقهم للإسلام من خلال تقوى الله، وبذلك كان عليّ يطلب من النّاس أن يأتوا إليه ليعلِّمهم.

كان يقول لهم وهو على فراش الموت: "سلوني قبل أن تفقدوني"[6]، وكان يتألّم لأنَّه يملك علماً كبيراً، ولكنَّ النّاس لا يأتون إليه، ويقول: "إنَّ ههنا لعلماً جمّاً (وأشار إلى صدره) لو أصبت له حمله"[7].

ولهذا، لا بدَّ من أن ندقّق في انتمائنا إلى عليّ، فنحن نوظِّف عليّاً في المحاكم الطائفيَّة، ولكنّنا لا ننطلق معه في أحكام الشّريعة..

كانت كلّ حياة عليّ إسلاماً، وكلّ شخصيَّته إسلاماً، وكلّ علاقاته في خطّ الإسلام؛ هذا الإسلام الّذي نستهين منه ونتعقَّد منه ونهرب من طرحه، ونفكِّر كيف نهرب من مسؤوليَّاته، حتى لا يقول النّاس إننا متطرّفون متعصّبون. كان يقال لعليّ هذا الكلام، ولكنّه كان يسخر من ذلك، ونحن لا نزال نخاف؛ نخاف من أن نكون إسلاميّين كما هو الإسلام، لأنَّ أميركا لا تقبل، وأوروبّا لا تقبل، وملوك العرب وغيرهم لا يقبلون.

ثبات الإمام الخميني

وحده الإمام الخميني (حفظه الله) في هذا العصر، الّذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ينقد نفسه والنّاس من حوله، وينطق بكلمة الحقّ حتى لو وقف العالم كلّه أمام كلمة الحقّ، ويعي أنَّ المسألة هي أن يبقى الإسلام عنواناً لكلِّ المسلمين، وحركةً في حياة كلِّ المسلمين، والشِّعار الّذي يرتبط به كلُّ المسلمين، والخطّ الَّذي ترتبط به كلّ القيادات، ولهذا رأيناه في حديثه الأخير، أنّه كان يتحدَّث عن نفسه، ويقول إنَّنا قد أخطأنا الحكم في بداية الثَّورة على البعض، ولهذا لا بدَّ من أن يحكم فيها الّذين يؤمنون بالإسلام كخطٍّ ومنهج.. ثم يلتفت إلى كلِّ الواقع السّياسيّ هناك، لينبِّههم إلى أنَّ هناك وسائل وأساليب تعمل فيها كثير من الخطوط في الخارج على أن تجعل إيران دولة ليبراليَّة لا دولة إسلاميَّة، حتى ترضى أميركا وأوروبّا، وقالها بكلمةٍ حاسمة: ما دمت حيّاً، لن أسمح بذلك، وسأقطع أيدي كلّ من يفعل ذلك.

لم يقلها لتكون شعاراً استعراضيّاً، بل كان يؤكِّد أنَّ الدَّولة ولدت من قلب الثّورة الإسلاميَّة، ومن خلال دماء الشّهداء الإسلاميّين، وتحركت على أساس تضحيات العلماء الربّانيّين الّذين انطلقوا ليقدِّموا الشّهداء، ولذلك، ليس من حقّ أحد أن ينحرف بالثّورة، وقال لهم ليست المشكلة أن لا يرضى الغرب عني، بل أن يرضى الله عني، وهذا هو الّذي يجب أن نفهمه من خلال هذا الصَّفاء الرّوحيّ الإسلاميّ الفكريّ السّياسيّ.

نحن مع العالم من خلال خطوطنا الإسلاميَّة وشخصيّتنا الإسلاميّة، فلماذا يكون من حقّ العالم أن يتحدَّث معنا أو يتعامل معنا من خلال مفاهيمه، ولا يكون من حقِّنا أن نتحدَّث معه من خلال مفاهيمنا؟ إنَّ اللّيبراليّين في العالم يتحدَّثون معنا على أساس ليبراليَّتهم، والماركسيّين يتحدَّثون معنا من خلال ماركسيَّتهم، فلماذا لا يسمح لنا بأن نتحدَّث معهم من خلال إسلامنا!؟ إنَّ الإسلام دعوة للحياة..

فتوى قتل المرتدّ رشدي

لقد قالوا عنّا إنّنا ضعفاء، ولكنَّ الضَّعف لا يمكن أن يسقط إنساناً قويّاً في دينه وفي موقفه، لهذا انطلقت الفتوى الّتي أصدرها الإمام في مسألة سلمان رشدي الَّذي أصدر كتاب "آيات شيطانيّة"، والّذي تهجَّم فيه على رسول الله(ص) بكلّ أسلوبٍ بذيء، فهو لم يتحدَّث بلغة علميَّة، ولكنَّه تحدّث بلغة بذيئة، كما تحدَّث عن زوجات رسول الله بهذه اللّغة نفسها، وتحدَّث عن الإسلام بطريقة مهينة.

لقد أفتى الإمام بإعدامه باعتبار كونه مرتدّاً، ومن المفسدين في الأرض، ولكونه يسبّ رسول الله، وباعتبار كونه يمثِّل واجهةً من واجهات الكافرين، وباعتبار كونه يمثِّل خلفيّةً استعماريّة لإثارة الجوّ ضدَّ الإسلام والمسلمين.

إنَّهم يقولون إنَّ حقوق الإنسان لا تسمح بأن يصدر أيّ شخصٍ فتوى بإعدام آخر، ولا سيَّما إذا كان الآخر من بلدٍ آخر، وإنَّ ذلك يمثِّل بغضاً أعمى وإساءة فكريَّة، وانطلقوا بكلّ ِكلماتهم، وسار معهم بعض المسلمين الَّذين غذَّاهم الغرب بمفاهيمه وبثقافته وبكلِّ أساليبه، إنَّهم يخافون أن يتحدَّث الغرب عنّا بأنّنا متعصّبون.. كما أنَّ الدول الإسلاميّة انطلقت بطريقة خجولة، وبعض النّاس يقولون إنّه لا بدَّ من أن نؤلّف كتاباً ضدّه، والبعض يرى أن نقدِّم دعوى ضدّه في المحاكم البريطانيّة.. لقد أحرج الإمام القائد الواقع كلَّه، واستطاع أن يعدمه، وبعض النّاس يقولون إنَّه أعطاه دعايةً أكثر، ولكنَّ الواقع أنَّ هذه الفتوى استطاعت أن تصدم كلَّ الواقع الإسلاميّ المتهالك أمام الغرب.

وعمل الغرب على حصار إيران، وجعلوا من القضيَّة قضيَّة سياسيّة كبرى، واستطاعت الفتوى أن تكشف الخلفيَّات السياسيَّة التي تقف وراء الكتاب، وأنَّ الغرب لا يزال يعيش عقليّة مبغضة للإسلام والمسلمين.

نقول لكم: قد تكون عندكم مبادئ لحقوق الإنسان، ولكنَّنا كمسلمين نملك أيضاً مبادئ لحقوق الإنسان، ونحن نختلف معكم في كثيرٍ من هذه المبادئ. إنكم ترون أنَّ للإنسان الحريَّة حتى عندما يسيء إلى مقدَّسات الآخرين، ولكنّنا لا نوافق على ذلك، وعندنا مفاهيمنا الإسلاميّة التي شرَّعها الإسلام، وهذا ما لا تختلف عليه كلّ المذاهب الإسلاميَّة، فارجعوا إلى كل كتب الفقهاء والمذاهب، وستجدون أنَّ الحكم واحد.

نحن لسنا ضدّ حريّة الفكر، وقد عرف التّاريخ، ومن خلال القرآن، أنَّ الإسلام يعمل على أساس أن يخوض الصِّراع الفكريّ مع كلّ الّذين يطرحون الفكر المضادّ، لكنَّ هناك فرقاً بين من يطرح أمامك فكراً بطريقة علميّة، ومن يطرح كلاماً بذيئاً يشتمل على سبابٍ وشتائم واتهامات بطريقةٍ فاحشة بذيئة. هذا الكتاب لم يطرح فكراً حتى تناقشه على أساس الفكر، هذا سبّ لنبيّنا وإسلامنا، ولا يتعلَّق بحريّة الفكر، بل يتعلَّق بردِّ العدوان، فكيف من حقّنا أن نواجه من يعتدي على أرضنا وبلدنا، وليس من حقّنا أن نواجه من يعتدي على مقدَّساتنا!؟ إنَّ المقدَّسات عندنا أخطر من الأرض والوطن وكلّ ذلك.

أمَّا أن يقال: إنَّ المرتدّين كثيرون، فلماذا اخترتم هذا الشَّخص؟ فلأنّه جاء محمَّلاً بكلِّ الخطط الاستعماريّة الغربيّة ضدّ الإسلام، وإلا ما معنى موقف الدّول الغربيّة كلّها منه؟!

إنَّ كثيراً من المسلمين وغيرهم يستهينون بمسألة ارتباطنا بالإسلام ورسول الله، ونحن نقول إنَّ العالم المستكبر يقف لحماية شخصٍ واحد، ولكنَّه لا يقف لحماية مقدَّسات مليار مسلم، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنّ الغرب يحمي الَّذين يكيدون للإسلام، لأنّه لا يريد للإسلام أن ينطلق.

لهذا نحن مع الإمام الخميني في ذلك، لأنّه انطلق من مواقفه الفقهيَّة الإسلاميَّة، وليرض من يرضى، وليغضب من يغضب، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[8].

وفي هذه المناسبة، ونحن نذكر الإمام الخميني، أودّ أن أشير إلى أنَّني تحدَّثت إليه، وأراد مني أن أبلغكم سلامه وتحيّاته ودعواته، وأن أطلب إليكم باسمه أن تظلّوا ملتزمين بالإسلام كلّه، وأن لا تجاملوا أبداً على حساب الإسلام، وأن تنطلقوا في خطّ الإسلام، وأن تكونوا إخوةً كما أراد الله. تلك هي رسالته الَّتي أرادني أن أبلغكم إيّاها، وإنّني أحمد الله على أنّه بخير في جسمه وفي صحّته، بالرّغم من كلّ الدّعايات المضلّلة.

لبنان: للحفاظ على التّوافق

وفي هذا الجوّ، لقد كان الإمام مرتاحاً، كما كان كلّ القياديّين في الجمهورية الإسلاميّة، للاتّفاق الذي حصل بين حركة أمل وحزب الله، والّذي أنهى القتال المرير الذي أثار كثيراً من الأوضاع والتّعقيدات. ويراد لهذا الاتّفاق أن ينجح ويتركَّز ويلتزمه الجميع بشكلٍ حكيمٍ ومتوازن، حتى يستطيعوا أن يعودوا إخواناً يتحركون من موقع الإخوّة في مواجهة التحدّيات الكبيرة، سواء على مستوى واقع الاستكبار العالمي، أو على مستوى الواقع الصّهيوني المتمثّل بإسرائيل التي تعمل على أن تخطّط بكلِّ ما عندها من وسائل، وبكلّ ما تملك من تحالفات، ولا سيَّما مع أميركا، في سبيل تثبيت وضعها في المنطقة الحدوديّة، وفي سبيل تحويل النّاس هناك إلى أكياس رمل بشريّة يدافعون عنها ضدّ أهلهم. كما أنّنا نحتاج إلى هذه الوحدة وإلى هذا التّرابط من أجل مواجهة الأوضاع الدّاخليّة التي تريد أن تبني للبنان وضعاً جديداً بطريقةٍ وبأخرى.

إنَّ علينا أن نواجه الواقع كلَّه بوعي، وأقول للجميع في هذا المجال، لقد كنت أدعوكم دائماً أن تجتمعوا وتتحاوروا، ونحمد الله أنّكم اجتمعتم واكتشفتم كثيراً من النقاط المضيئة في علاقاتكم، ومن الأخطاء الّتي وقعتم فيها هنا وهناك، وعلينا أن لا نثير الماضي في الخطابات والتّصريحات، لأنَّ الصّلح الّذي يقوم على أساس إيجاد مرحلةٍ جديدة، قد تنسب إليه الكثير من الأحاديث الّتي يتحدّث بها كثير من الناس من أجل إثارة الماضي..

ليس هذا هو وقت التحدّث عن الماضي، إنَّه وقت لملمة الجراح، وجمع الحسابات، ووقت الانفتاح على القضيّة الكبيرة، والبحث عن مواقع اللّقاء فيما بينكم. إننا نقول لكلّ من يملك الكلمة، خطيباً كان، أو مصرّحاً للصّحف، أو متحدّثاً في الصّالونات: إنّ الكلمة مسؤوليّة كبيرة، وعلينا أن لا نحركها إلا في اتجاه السَّلام فيما بيننا.

ولا يكفي أن تجتمع القيادات من هنا وهناك. إنّني أقول للقواعد إنّها يجب أن تجتمع مع بعضها البعض، وأن تكتشف أسس اللّقاء، والأسباب التي تحركت لتبعدها عن خطِّ التلاحم، فما حصل كان حرباً من أقسى الحروب، ولم تكن الكلمات الّتي تثار تستطيع أن تبني مجتمعاً. لهذا لا بدَّ من أن نأخذ بقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[9]، وحاولوا أن تتفادوا الكثير من العقد، فيما يمكن أن يثبت الأرض وأن يبعدنا عن هذه التّجربة في المستقبل. علينا أن نتّقي الله، وأن نستمع إلى كلمة الإمام عليّ(ع): "اتّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"[10].

أهميّة الوحدة والتّعاون

إنّنا نبارك هذا الاتفاق، ونشكر الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والجمهورية العربية السورية، على هذا الإنجاز المهمّ، وعلينا أن نراقب الواقع فيما يدور في البلد، لأنَّ هناك الكثير من الأحاديث تهيّئ للنّاس أنّ المسألة على قاب قوسين أو أدنى، ولكنّنا نحتاج إلى مراقبة كثيرة للواقع، وإلى رصدٍ كبير للتحريمات والاجتهادات، وربما رأى الكثيرون في اجتماعات اللّجنة العربيّة الكثير من الآفاق المشرقة الكبيرة، ولكن علينا أن نفهم حقيقة سياسيّة في البلد، وهو أنه لم تكن المشكلة في لبنان أنّ العرب لا يفهمون رأي اللّبنانيين، أو أنهم لا يعرفون ماذا يقول رؤساء الطّوائف والسياسيّون، لقد أصبحت المسألة اللّبنانية معروفة بكلّ خلافاتها وتعقيداتها، وبكلّ الطروحات التي تتحرّك في إمكانيّة حلّ المشاكل، سواء المشكلة الرئاسيّة أو حلّ الأزمة اللبنانيّة.

إنّ ما قيل وما تحركت به كلّ اللّقاءات والاجتماعات، وكل ما يتحدث به السياسيون والقادة الروحيّون، هو اجترار لما تحدَّثوه سابقاً. والمسألة لم تكن اجتماع القيادات الرّوحيّة حتى نستبشر بقمّة روحيّة هنا أو في الكويت، لأنّ المسألة هي أنّه لا يسمح لما يسمّى بالقادة الروحيّين أن يتحركوا في مشروع سياسيّ، لأنَّ البلاد العربيّة ليست مستعدّة لأن ترضى بالدَّور الفاعل لما يسمّى برجال الدّين في السياسة، ولكن المسألة هي أنّ هناك أدواراً يراد لها أن تظهر.

المسألة ليست مسألة السياسيّين أو القادة الروحيّين، والقصّة في لبنان ليست أن نبحث عن حلّ فيما يتحدّث به الجميع، ولكن هناك جهات فاعلة في المسألة اللّبنانيّة، فما هو رأيها؟ وما هو موقفها؟ لا تسألوا اللّبنانيّين ما هو رأيهم، فأنتم تعرفون أنهم قالوا كلّ شيء، ولم يعد عندهم شيء يقولونه.

إنَّ العرب لا بدَّ من أن يسألوا أنفسهم، ولا بدّ من أن يتعرفوا العمق السياسي الأمني في المسألة الإقليميّة والدولية، وعند ذلك يستطيعون أن يوفّروا الكثير من ميزانيّات المآدب والمطاعم والفنادق. أعطونا كلّ هذه الأموال لنصرفها على المستضعفين، وابعثوا لنا موظَّفاً يجمع كل هذه الملفات.

المسألة في لبنان كانت من خلال صراعاتكم، فهل تريدون أن تحلّوا المشكلة؟ حلّوا مشكلة الجامعة العربيّة، مجلس التعاون العربي، ومجلس المغاربة وغير ذلك! تماماً كما هم اللّبنانيون؛ مجلسٌ ملّيٌّ هنا ومجلس ملّيٌّ هناك؟ لقد تعلَّمنا منكم كيف نختلف، وتعلَّمتم من ذلك، أو أنّنا من فصيلة واحدة تعرف الخلاف ولا تتعرّف اللّقاء!

إنكم تتحركون في السّطح، فلماذا لا تتحركون في العمق؟ ونحن لا نزال نتحرّك في السّطح في لبنان، وإذا تحركنا في العمق قد نعرف المسألة في حقيقتها.

إنّنا نحبّ أحلام السّلام، ولكننا لا نريد أحلاماً تجعلنا نعيش في المستقبل هواجس الحرب، بل نريد سلاماً حقيقيّاً، لا أن تحدث حرب هنا وهناك، ويقول الناس إنها تعقيدات، فإنَّ دماءنا أثمن من كلّ ذلك. أيّها النّاس، لا تستعجلوا الحكم والتّفاؤل، وارصدوا الخلفيّات جيّداً، لعلّنا نجد هناك شيئاً يبعث على التَّفاؤل أو التَّشاؤم، إنَّ المسألة مسألة العمق لا السَّطح.


[1] [البقرة: 207].

[2] [المائدة: 55].

[3] [آل عمران: 31].

[4] الكافي، الشّيخ الكليني، ج 8، ص 351.

[5] نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ(ع)، ج 1، ص 104.

[6] المصدر نفسه، ج 2، ص 130.

[7] المصدر نفسه، ج 4، ص 37.

[8] [الكهف: 29].

[9] [الحجرات: 10].

[10] نهج البلاغة، ج 2، ص 80.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية