ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
مراقبة النفس
من خصائص شهر رمضان أنه يجدِّد للإنسان نفسه، ليجلس مع نفسه بين يدي ربه، ليفهم نفسه في نفسه، وليفهم موقعه وموقفه من ربه، وهذا ما نلاحظه في كلِّ ما حشد الله تعالى فيه من القرآن أو ما أتى به من عناصر العبادة في الصيام والصلاة والدعاء، فالمسألة هي مسألة مراقبة النَّفس، لأنّ الإنسان الذي يعيش الغفلة في حياته بفعل استغراقه في لذَّاته وشهواته وأشغاله وعلاقاته العامة، لا يلتفت إلى نفسه من هو، لماذا يفعل هذا الفعل ولماذا ينشئ هذه العلاقة، ولماذا يؤيد هذا ويرفض ذاك؟ إن الكثيرين منّا يتحركون تماماً كالإنسان الذي تنقله أمواج البحر من مكان إلى مكان دون أن يكون له الحرية في اختيار ذلك.
فهذا الشهر هو شهر تأمّل وتفكّر، حيث يعيش الإنسان في البداية الإحساس بأنَّ هناك رقابةً تنفذ إلى كلِّ كيانه من الله تعالى، فهو مكشوف أمام الله بكلِّه. وقد نشعر بالأمان عندما نفكِّر، سواء كان التفكير تفكير خير أو تفكير شر، أنه ليس هناك من ينفذ إلى داخل أفكارنا وقلوبنا عندما تنبض بالخير أو بالشر، ليس هناك من ينفذ إلى داخل دوافعنا النفسية عندما نريد أن نعمل عملاً أو نترك آخر بدافع معين، ولذلك يشعر الإنسان بالحرية لأنه ليس عليه رقيب. ولكن الفكرة الدينية تقول لك إن الله تعالى يراقبك وأنت تفكر، وأنت تتفاعل شعورياً، وأنت تندفع في نيَّاتك بالخير أو بالشر: {وكان الله على كل شيء رقيباً}، حتى الملائكة يسجّلون كلَّ ما يصدر منك: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد}، وحتى أعضاؤك يسجِّل كلٌّ منها ما يتمثَّل فيه من العمل، وهذا ما نستوحيه من "دعاء كميل": «وكلَّ سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين، الذين وكّلتهم بحفظ ما يكون مني، وجعلتهم شهوداً عليّ مع جوارحي، وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم».
هذه الفكرة، فكرة اطّلاع الله على الإنسان وهو يفكِّر ويخطِّط، تجعله يشعر بالرقابة، فيعصمه ذلك عن التفكير بالشرّ: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، والصدور هي كناية عن العقول، فالله يعلم ما تخفيه في صدرك من الأسرار والأفكار التي لم يطّلع عليها أحد. لذلك على الإنسان أن يبدأ في هذا الشّهر بصنع ذاته، بأن يبدأ بمحاسبة نفسه، في ما يفكِّر من المسائل العقيدية والانتمائية، وما إلى ذلك من الأمور التي تنطلق من خلال فكرٍ يجعله يقف موقفاً إيجابياً هنا وسلبياً هناك، ثم أن يصنع عاطفته عندما يحبّ ويبغض. ربما كنا نحبّ ونبغض تأثّراً بالبيئة التي عشنا فيها، فلو رجعنا إلى أنفسنا، فإننا نجد أننا لا نختار حبّنا ولا بغضنا، بل لأنَّ أهلنا يحبون هذا أو يبغضون ذاك، أو لأن التعليمات الحزبية تقول لنا أحبّوا فلاناً وأبغضوا فلاناً، لذلك علينا أن نعرف أن حبنا وبغضنا ينعكس علينا سلباً أو إيجاباً، فالذين يفرضون علينا الحبّ والبغض، لا يتحمّلون مسؤولية ذلك لا في النتائج السلبية ولا في النتائج الإيجابية، كما يقول الإمام عليّ (ع): «لا يغرَّنّك سواد الناس عن نفسك، فإن الأمر يصل إليك دونهم».
لذلك، علينا أن نراقب أنفسنا في جذور هذه العاطفة أو تلك، لأن العاطفة قد تنطلق من حالة سطحيَّة، وهو ما يتحدث عنه بعض الشباب "الحب من النظرة الأولى"، فالحب الذي يريد أن ينشئ أسرة أو كياناً اجتماعياً، لا يربط بالناحية الشكلية والجمالية فحسب، بل يرتبط بأبعاد الشخصية كلها، وفي هذه الحالة، لا بد لك أن تدرس الإنسان بكله، لأنك ترتبط به بكله، فأنت تتعامل مع قلبه وعلاقاته وسلوكه، وهذه الأمور تحتاج إلى فكر ومراقبة، حتى تعمّق قرارك من خلال الجذور التي ترتبط بحياتك، وهكذا على مستوى العلاقات العامة والصداقات والانتماء السياسي والاجتماعي.
محاسبة النفس
وهناك نقطة لا بدَّ من الإشارة إليها، وهي أننا دائماً نفكّر بالخسارة والربح على المستوى المادي فقط، ولكننا لا نفكّر بالخسارة والربح على المستوى الأخروي عندما نقف بين يدي الله، فنحن نملك الدقة في حساباتنا على المستوى المادي، ولكن على مستوى حسابات الله، كم هي الاهتمامات بهذه الحسابات يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، لأننا مشغولون بالدنيا، ولذلك فإن هذه الأمور كلّها تحتاج إلى مراقبةٍ بكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى، وهو ما جاءت به بعض الكلمات المأثورة.
فعن عليّ (ع): «اعلموا عباد الله ـ وعندما نقرأ كلمات الإمام عليّ (ع) فإنَّ علينا أن نتصوَّر أن علياًَ هو الذي يخاطبنا، فهو إمام الزمن كله وحديثه حديث الزمن كله ـ أنَّ عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم ـ فكل عضو هو عين تحدّق بكم ـ وحفّاظ صدق ـ وهم الملائكة ـ يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ـ فنحن لسنا مستورين أمام الملائكة وأمام أعضائنا ـ ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج»، ويقول (ع) وهو يقتحم على الإنسان نفسه ليجعله سيِّد نفسه: «لا تكن عبد نفسك، فإن النفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم الله سبحانه وتعالى». كن الإنسان الذي يحكم من خلال عقله على نفسه ليوجهها إلى الخير وما يرضي الله تعالى. ويقول (ع): «طوبى لمن راقب ربه ـ بحيث ذكر الله في كلِّ شيء ـ وخاف ذنبه»، ليتخفَّف من ذنبه ويتوب إلى الله منه.
ويقول الإمام الصادق (ع): «ما من يومٍ يأتي على ابن آدم إلا قال ذلك اليوم: يابن آدم، إني يوم جديد وأنا عليك شهيد، فافعل بي خيراً ـ لا تخطئ ولا تعمل السوء ـ واعمل فيَّ خيراً، أشهد لك يوم القيامة، فإنك لن تراني بعده أبداً»... ويقول الإمام الكاظم (ع): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ـ كما تحسب حساب المال الذي حصلت عليه، فإن عليك أن تحسب حساب الأعمال التي فعلتها ـ فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه». وقد ورد في تقسيم الزمن أنه ينبغي أن يكون للمؤمن ثلاث ساعات: «ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرمّ فيها معاشه ـ يحصّل فيها معاشه ومعاش عياله، ليتحمّل مسؤوليته تجاه حاجاته الشخصية وحاجات عياله ـ وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّتها في ما يحلّ ويجمل، فإنَّها عونٌ على تينك الساعتين».
هذا الشَّهر هو شهرُ المراقبة، أن تراقب نفسك لتفهمها، وشهر المحاسبة، أن تحاسب نفسك في كلِّ عمل، ثم إذا حاسبتها فهناك المحاكمة بأن تحكم لها وعليها، وهناك المجاهدة بأن تجاهد نفسك فتمنعها عن الشرّ وتوجّهها إلى الخير. لذلك علينا أن نخرج من هذا الشهر بعقلٍ جديد ليس فيه إلا الحق، وقلب جديد ليس فيه إلا المحبة والخير، وحركة جديدة ليس فيها إلا ما يرضي الله، ولا شيء إلا لله تعالى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله وراقبوه في كلِّ أموركم العامة والخاصة، ومن مراقبتنا لله في كلِّ أمورنا، أن يرانا الله تعالى ونحن نتحمّل مسؤولياتنا في ما حمّلنا مسؤوليته عن أهلنا وأمَّتنا بكلِّ ما يواجهها من تحدّيات ومشاكل وحروب ومصادرات، لأنَّ الأمَّة هي عبارة عن كلِّ أفرادها الذين تربطهم العقيدة والقضايا الكبرى التي يتحمّلون مسؤوليتها، وهي الآن تعيش التحديات الكبرى، حتى إنّنا إذا تطلَّعنا إلى العالم الإسلامي، نجد في كلِّ بلد إنساناً يُجرَح ويُقتل ويُدمّر ويصادر، وهو ما يحمّلنا المسؤولية أن تكون مواقفنا بحجم التحديات التي توجَّه إلينا، فتعالوا نراقب ما حولنا لنحدِّد الموقف:
فلسطين: الاستمرار في المقاومة:
أمريكا وإسرائيل تراهنان على إسقاط الشعب الفلسطيني تحت تأثير المجازر الوحشيّة التي يمارسها الجيش الصهيوني، من أجل ردِّ فعلٍ فلسطيني ضد المجاهدين في الانتفاضة بذريعة "أنهم السبب في ذلك"... ولكننا نلاحظ أن هذا الشعب الذي عانى أخيراً من عمليات الإبادة في مخيم جباليا، التي حصدت مائة وأربعين شهيداً، ودمّرت أكثر من مائة منزل وشرّدت الآلاف، لا يزال صامداً مع المقاومة، حتى إنه ـ حسب معلوماتنا الدقيقة ـ لم يوافق على تنازل المقاومة عن إطلاق صواريخ القسّام ضدَّ المستوطنات الصهيونية، عندما انطلقت بعض التصريحات في هذا الاتجاه للتخفيف من الضغط الإسرائيلي على الشعب، وطلب من المجاهدين الاستمرار في المقاومة، لأن الضغوط الوحشية العسكرية زادته صلابةً وقوّةً وتحدياً للمحتلّ، ولأنه آمن بأن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تهدف إلى الاستسلام الفلسطيني برفع الراية البيضاء، لتفرض عليه كل شروطها المذلّة، من دون أن تمنحه كيان الدولة التي يلوّح بها الرئيس الأمريكي نفاقاً وخداعاً وخدمةً لإسرائيل...
لقد عرف الفلسطينيون من خلال تجاربهم الطويلة، أنَّ المشكلة ليست محصورةً في موقف الجزّار شارون، بل إنها تمتدُّ لأكثرية اليهود في فلسطين الذين يرفضون أيّ انسحاب من المستوطنات في غزَّة وفي بعض مناطق الضفة الغربية، وأيّ هدم للجدار، أو تنازل عن القدس، أو إقرار لعودة اللاجئين...
حرب شاملة ضد الإسلام والمسلمين:
لقد أصبحت المسألة حرباً شاملةً بين اليهود والفلسطينيين، وتتوسَّع لتصبح بين العرب والمسلمين من جهة والجماعات اليهودية والمسيحيين المتصهينين في أمريكا التي تملك التأثير السياسي على الانتخابات الأمريكية من جهة أخرى، الأمر الذي جعل التنافس بين المرشح الجمهوري والديمقراطي يدور حول المزايدة في التأييد المطلق لإسرائيل، ومحاربة العرب، وتدمير الشعب الفلسطيني، وممارسة الضغط على حلفاء أمريكا وأصدقائها، من أجل تحويل مجلس الأمن الدولي إلى موقع متقدّم لمنع إدانة إسرائيل على مجازرها، والضغط على قضايا العرب والمسلمين، لأن القانون الدولي أو الإنساني والشرعية الدولية لا دور لها إلا للضغط على الواقع الإسلامي والعربي؟!
والسؤال: هل نفهم من ذلك كله أنَّ هناك حرباً عالمية ضدّ الإسلام والمسلمين؟ وهل إن قانون معاداة الساميَّة الذي أصدره الرئيس الأمريكي هو بمثابة إعلان الحرب على كلِّ دولة تنتقد اليهود في سياستهم الفلسطينية، أو تعاديهم في تصرفاتهم العدوانية، بينما تُعطى كل الحرية لمعاداة العرب والمسلمين وكل الشعوب الأخرى الخاضعة لاضطهادات دينية أو عنصرية؟؟ هذه هي صورة أمريكا في الحرب ضد الإنسانية لحساباتها الانتخابية الداخلية على حساب المستضعفين كلهم!!
العراق: الاحتلال يزرع المآسي:
أما المشهد العراقي، فيتكرَّر في مآسيه التي كانت من نتائج الاحتلال الأمريكي في مفاعيله السلبية، فمن حصار هذه المدينة وتلك، ودكّ بيوتها بغارات الطائرات، إلى المتفجّرات التي تقتل من العراقيين أضعافاً مضاعفة مما يُقتل من الأمريكيين، إلى عمليات الخطف المتواصلة التي لا توفّر حتى العاملين في المجالات الإنسانية، إلى أعمال النحر والذبح التي نسمع عنها يوماً بعد يوم، وأعمال الاغتيال التي قد تتمثَّل في عناوين طائفية ومذهبية بما يهدّد الوحدة الإسلامية من جهة، والوطنية من جهة أخرى...
إننا في الوقت الذي نحمّل الاحتلال المسؤولية عن كلِّ هذه الجرائم، سواء التي ارتكبها بشكل مباشر أو غير مباشر، نؤكد أنّ هؤلاء الذين يخطفون بلا حساب، ويذبحون بلا حساب، يعملون لخدمة المحتلّ ولحسابه...
ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى الحملة الوحشية ضد المسيحيين وكنائسهم، بما قد يؤدِّي إلى تشريدهم من العراق من دون أيّ ذنب أو مشكلة طائفية، في الوقت الذي يعرف الجميع ـ في كلِّ مسارات التاريخ العراقي ـ أنه لم تحدث مثل هذه الجرائم في أيّ عهد إلا في عهد الاحتلال الذي زرع الفوضى في العراق، بالتحالف المخابراتي بين مخابراته ومخابرات إسرائيل "الموساد" التي تعمل في خططها التدميرية على منع ولادة عراق حرّ قويّ تتعايش أطيافه الدينية والعرقية والسياسية.
لبنان يعيش الأزمات الخانقة
أما لبنان، فإنه يعيش في مرحلة هي من أصعب المراحل التي تمر عليه، في ظل الضغوط الداخلية والخارجية، وبخاصة الأمريكية التي تريده أن يكون ساحةً للضغط على سوريا من أجل تأمين راحة أكثر لاحتلالها للعراق، ولتقديم المزيد من الأوراق لإسرائيل...
إننا نتصوّر أنَّ ما يتحرَّك به النادي السياسي في لبنان، من المقاطعة على الصعيد السياسي، ومن المواقف الحادّة التي تخلق حالةً من العنف في الأبعاد السياسية والطائفية التي ينفذ إليها الكثيرون من الذين يلعبون لعبة الأمم، ومن الذين يصطادون في الماء العكر... تجعلهم ينسون الشعب اللبناني في أزماته الخانقة، حتى تحوّلت المسألة إلى أكثر من جدل عقيم قد يمنحه الصراع بعض العناوين الوطنية، على طريقة حوار الطرشان...
إننا نقول للجميع: إن الشعارات اللاواقعية على مستوى المرحلة، سوف تؤدِّي إلى الجدل الذي لا ينتج وفاقاً وطنياً، بل قد يحوّل الساحة إلى إنتاج جديد لأكثر من أزمة سياسية واقتصادية وأمنية قد تُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، الذين يحمل كل واحد منهم ـ من خلاله ـ فأساً من هنا وهناك، لتتساقط كل أحجار البلد من كلِّ قلاعه التاريخية. |