السيّد فضل الله لقناة "الآن" الكويتيّة:
المعارضة في الإسلام حقّ، والفتاوى المنفتحة على قضايا المرأة هي جزء من رسالتي
أجرت قناة "الآن" الكويتية، مقابلةً مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، سألته فيها عن قضايا تخصّ المرأة، وعن المعارضة في الإسلام، وغيرها من المواضيع.
وهذا نصّ الحوار:
معنـى الأمومـة
س: سماحة السيّد فضل الله، عندكم فتاوى، وصف بعضها بالثوريّ، وخصوصاً تلك الفتاوى المتعلّقة بـ"المرأة". أحبّ أن أستوضح منك هذا الأمر، وقبل ذلك، أحبّ أن تحدّثنا عن الأثر الذي تركته والدتك في نفسك وشخصيّتك وحملته معك خلال حياتك؟
ج: لقد كنت كأيّ طفلٍ يعيش في أجواء الأمومة، وينهل منها كل معاني الحنان والرعاية، وكنت أشعر بلهفة الأمّ التي تحاول أن تمنع كل ما يمكن أن يسيء إلى ولدها، وحتى عندما نشأت وكبرت، بقيت أعيش هذه الأجواء، والتي عبّرت عنها في رثائي لوالدتي، وقلت إنّني بقيت أحسّ بطفولتي في حياة أمّي حتى وأنا في عمر الخمسين والستّين، لأنّها كانت تتعامل معي كما لو كنت طفلاً، وكانت تهتمّ بي عندما أتعرّض لبرد أو حرّ أو تعب، ولذلك كنت أقول إنّني كنت طفلاً مع أمي حتّى وأنا في الخمسين أو في الستين، وعندما فقدتها شعرت بالشيخوخة.
الأمومة تمثّل عمقاً إنسانياً صافياً طاهراً ينطلق من قلبٍ يتميّز بنبضاته التي تختلف عن أيّ نبضة من أيّ حبيب
إنّ الأمومة تمثّل عمقاً إنسانياً صافياً طاهراً ينطلق من قلبٍ يتميّز بنبضاته التي تختلف عن أية نبضة أخرى من أيّ حبيب آخر، لأنّها النبضة التي تنطلق من داخل كيان الأم لا من خارجه.
قضايا المرأة
س: هل يعني ذلك أن فتاواك المناصرة للمرأة نابعة من هذا الحبّ للمرأة الأم ولا تستند إلى قواعد دينية؟
ج: أنا أعتبر أنّ فتاواي المنفتحة على قضايا المرأة هي جزء من رسالتي، لأنّني منذ انطلقت في الحياة العامّة، وخصوصاً في الخطّ الإسلاميّ الأصيل، كنت أؤمن بأنّه ليس هناك أيّ فرق بين المرأة والرجل، فعقل المرأة كعقل الرجل، ونموّ عقل الإنسان وتطوّره يخضع للرّعاية الفكرية التي يمكن أن تحيط به، سواء كان ذكراً أو أنثى، إن من خلال ثقافته التي يختزنها في وجدانه، أو من خلال تجربته التي يعيشها، أو البيئة التي ينطلق منها.
التّمييز الذكوريّ ضدّ المرأة لم يكن ناشئاً من نقص ذاتي في شخصيّتها، وإنما من خلال الإهمال التاريخي لها في ثقافتها وتنمية عقلها وطاقاتها
لذلك كنت أرى أنّ هذا التمييز الذكوريّ ضدّ المرأة لم يكن ناشئاً من نقص ذاتيّ في شخصيّتها، وإنّما من خلال الإهمال التاريخي لها في ثقافتها وتنمية عقلها وطاقاتها، لأنّها دائماً تعيش على هامش الرجل، فهي الزوجة التي تخدم الرجل، وهي الأمّ التي تخدم الذكور كما الإناث، وهي ربّة البيت التي تستهلك كلّ أوقاتها في خدمة بيتها. أنا لا أتحدّث عن أنّ المرأة الزوجة أو الأم أو ربّة البيت تمثل سلبيةً في شخصية المرأة، ولكنني أعتقد أن المرأة كالرجل، ليست محبوسةً في دائرة هذا الدور، فهو يمثل أحد الأدوار الإنسانية، تماماً كالرجل، فكما أنّ الأبوّة لا تحاصر الرجل وتمنعه من الانفتاح على العالم في حركته، كذلك الأمومة لا ينبغي أن تمنع المرأة من أن تنفتح خارج نطاق الدور الذي وضعت فيه.
هناك نقطة يختلف فيها الرجل عن المرأة، وهي أنّ أمومة المرأة في داخل جسدها، بينما أبوّة الرجل من خارج جسده، ولكن تبقى هذه المسألة في دائرة قيام الرجل بمسؤولية الإنتاج والرعاية المالية للأسرة وما إلى ذلك.
العنف ضدّ المرأة
س: لقد أثارت فتواك بجواز ردّ المرأة العنف الجسدي بعنفٍ مثله، إن لم يكن لديها ما تستطيعه غير ذلك، وكذلك جواز امتناعها عن إعطاء زوجها حقوقه، جدلاً واسعاً، لماذا هذا الجدل سماحة السيد؟
ج: إنني أتصوّر أن الذين أثاروا الجدل حول هذه الفتوى، لم يدقّقوا في الأسس التي ارتكزت عليها، فلقد انطلقْتُ في هذه الفتوى على أساس أنَّ إنسانية المرأة لا تختلف عن إنسانية الرجل، لذلك على الرجل أن يحترم المرأة ولا يحقّ له أن يعتدي عليها، سواء في أوضاعها النفسية أو الجسدية أو ما إلى ذلك من الشؤون التي تمثل احترام الإنسان للإنسان، تماماً كما تتعاطى المرأة مع الرجل.
القرآن الكريم يؤكّد أنّ الدّفاع عن النّفس حقّ إنسانيّ يملك الإنسان أن يمارسه للدفاع عن إنسانيّته
وفي القرآن الكريم ما يؤكّد مسألة حقوق الإنسان، في علاقة الإنسان بالإنسان، فهو يؤكّد أنّ الدفاع عن النفس حقّ إنساني يملك الإنسان أن يمارسه للدفاع عن إنسانيته، فعندما تكون المرأة في البيت، سواء كانت زوجةً أو أختاً، وينطلق الرجل الزوج أو الأخ، أو القريب في بعض المجتمعات العشائرية، ليعتدي عليها عدواناً، ولا يكون للمرأة أية فرصة للدفاع عن نفسها في الخارج، كأن تخرج من البيت، أو تستدعي الجيران، أو تمسك بالهاتف لتتصل بالشرطة أو ما إلى ذلك، بحيث تكون وحدها مع الرجل الذي يمارس العدوان عليها بالضرب المبرّح الذي قد يفقأ عينها أو يكسر يدها أو رجلها أو يدمي جسدها وما إلى ذلك، فإنّ لها الحقّ في أن تدافع عن نفسها، بأن تضربه إذا ضربها، وبأن تمنعه من الاعتداء عليها بما يحقّق لها الأمن الجسدي والنفسي.
ولكنّ بعض الناس فهموا أنّني أتحدث عن المسألة في داخل الأسرة كشيء طبيعي. نحن نقول إنّ سلام الأسرة هو أساسيّ بالنّسبة إلى المرأة وبالنّسبة إلى الرجل، فإذا لم يكن الاعتداء اعتداءً قاسياً أو مدمّراً أو جارحاً أو ما أشبه ذلك، فبإمكان المرأة أن تصبر، وبإمكانها أن تعفو أو تنتظر الفرصة من أجل الحصول على وسائل أخرى، كأن تخرج من البيت بطريقتها الخاصّة بعد أن تستدعي الجيران أو تستدعي السلطة أو تستدعي أهلها أو ما إلى ذلك.
ونحن نلاحظ أنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن ردّ الفعل في مسألة العدوان في قوله: {
وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237]، وقوله: {
ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين} [النحل:126]، إنّما تحدّث عن العفو الذي يمكن أن يتحقّق في أثناء الأزمة، لا العفو الذي يتحوّل إلى حالة ضعف تزيد من عدوان المعتدي. ونحن نروي عن أحد أئمّة أهل البيت(ع)، وهو الإمام علي بن الحسين زين العابدين، يقول: "وأما حقّ من ساءك فأن تعفو عنه، فإن علمت أنّ العفو عنه يضرّه انتصرت"، ربّما يكون عفونا عن الشّخص المعتدي يزيد في عدوانه، لأنه يتصوّر أنّ هذا العفو يمثل نقطة ضعف في مقابل ما يملكه من القوّة، فيزداد عتوّاً وعنفاً ضدّ الآخرين.
العنف تحت عناوين إسلاميّة
س: لم تغفل فتواك أيّ نوع من أنواع العنف، فقد ذكرت العنف الجسدي والنفسي والاجتماعي، وذكرت أيضاً العنف التربوي. حين تسمع في الأخبار ما تقوم به جماعة طالبان من حرق وجوه الفتيات الراغبات في التعليم بالأسيد، أو تدمير مدارس الفتيات وحرق الكتب وقتل الناس، فقط لأنهم شعروا بالحبّ، بماذا تشعر سماحة السيّد؟
ج: نحن تحدّثنا عمّا يسمّى جرائم الشرف، وعمّا يفعله الكثيرون، سواء في المجتمعات العشائريّة، أو حتّى في المجتمعات المدنيّة التي يختزن أفرادها حالةً عنصريةً قبليةً، بحيث يعتبرون أنّ إخلال المرأة بجانب العفّة، حتّى على مستوى الإشاعة أو التّهمة، أو على مستوى أن تتزوّج بغير من يريده أهلها ممّن ترغب فيه وتحبّه وما إلى ذلك، يعتبرون أنّ هذا يمثّل إساءةً إلى شرف العائلة، وربما يتمثّل بعضهم ببيت الشّعر المعروف:
لا يسلم الشّرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدّمُ
شرف كل إنسان يتّصل به هو ولا يتعدّى إلى الآخرين
ونحن نعلّق على هذه الأفعال؛ بأنّ شرف كلِّ إنسان يتّصل به هو ولا يتعدّى إلى الآخرين، فلو أخلّت المرأة بالشّرف في القضايا الجنسية مثلاً، فإنّ هذا الإخلال بالشّرف يخصّها وحدها، ولا علاقة لشرف العائلة بذلك. وحتى في القضايا السياسية، فيما لو كان الشخص عميلاً للعدوّ مثلاً، فإنه لا يجوز لنا أن نحاسب عائلته ونتّهمها بالعمالة وما إلى ذلك، فعمالته تخصّه.
س: وبالنّسبة إلى الأفعال الّتي تقوم بها جماعة طالبان في أفغانستان وباكستان، من تدمير مدارس البنات، وإحراق وجوه الطّالبات بالأسيد لمنعهنّ من التعلّم؟
ج: نحن نقول إنّ أيّ نوع من أنواع هذا التّشويه هو محرَّم وجريمةٌ، لأنه حتى الزنا، جعل الله سبحانه وتعالى له حدّاً: {
الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحدٍ منهما مئة جلدة} [النور:2]. ثم إنّنا نلاحظ أنّ قضية إثبات الزنا ربّما لا تتحقّق من ناحية قضائية بشكلٍ تلقائي وبسيط، فلا يجوز في هذه الحال الحكم على امرأة أو رجلٍ بالزنا إلا إذا كان هناك أربعة شهود عدول، والعدول هم الذين يخافون الله ويتّقونه ولا يتّهمون الآخرين بغير ما فعلوا، بحيث يكون هؤلاء الأربعة قد شاهدوا العمليّة الجنسيّة بالعين المجرّدة وبشكل تفصيلي، وهذا ما لا يحدث عادةً، أو أن يقرّ الزاني بالزنا أربع مرات.
ففي الروايات، أنّ أحد الأشخاص ادّعى على نفسه عند النبي(ص) بالزنا، فقال له: طهّرني يا رسول الله، فقال(ص): "أفتدري ما الزنا؟" قال: "أصبت من امرأة حراماً ما يصيب الرجل من امرأته"، فطرده رسول الله(ص) ثم عاد، فعل ذلك أربع مرات، وفي الرابعة، قال له رسول الله(ص): "أدخلت وأخرجت؟" قال:نعم، أعاد ذلك أربع مرّات، وهو يقول: نعم، فأقام حينها الحدّ عليه. وهذا يعني أنّ إثبات عقوبة الزّنا أمرٌ ليس بهذه السّهولة، ما يجعل من عقوبة الزّاني أمراً وقائياً أكثر من كونه أمراً فعليّاً، لأنّه يجب أن يكون هناك أربعة شهود، وإذا فرضنا أنّ أحد الشهود تراجع، يحدّ الشهود الآخرون بالقذف، لأنهم قذفوا إنساناً بغير إثبات. وفي حال اتّهم الزوج زوجته بالزنا، فهناك طريقة أخرى هي طريقة الملاعنة، والتي تكون نتيجتها الانفصال.
لذلك، فإنّ ما يفعلونه في أفغانستان أو غير أفغانستان من تشويه وجه الفتاة مثلاً، أو ما أشبه ذلك، هو محرّم شرعاً، ونحن نقف عند حدود الله، يعني مثلاً لو أنّ إنساناً حكم بالإعدام، فليس لنا إلا أن نعدمه، أمّا أن نضربه، أن نشوّه وجهه، أن نكسره، كما هي الفتوى الآن التي صدرت من بعض الفقهاء في مصر، والّتي تقول إنّه يجوز في الشّخص الذي يُحكم بالإعدام أن يؤخذ شيء من أعضائه، لأنّه بمثابة الميت، وزرعها في أشخاص آخرين، فإنّ هذا أيضاً أمرٌ محرَّم ولا يجوز، لأنّ ما جاء به الشرع هو أنّ القاتل يُقتل، أو أنّ الشخص الذي يقوم بالخيانة العظمى مثلاً ويحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فساداً يقتل، أمّا أن يعذّب، فلا يجوز ذلك.
ما جاء به الشّرع هو أنّ القاتل، أو الذي يقوم بالخيانة العظمى، يُقتَل، أمّا أن يُعذّب فلا يجوز ذلك
ونحن نروي عن الإمام عليّ(ع) أنّه قال في حالة احتضاره في وصيّته لعائلته بني عبد المطلب: "إذا أنا متّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يمثَّل بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور". وعلى هذا الأساس، فالأب الذي يقتل ابنته لأنّه يتّهمها بالزّنا، أو الأخ أو الزّوج، هو رجلٌ مجرم يُقتَصّ منه كما يقتصّ من أيِّ إنسانٍ آخر.
العلم هو القيمة، لأنّه بالعلم يكبر العقل، وبالعلم تنمو الطّاقة، وبالعلم تمتدّ الحياة وتنفتح على التّجارب الغنيّة
س: ما رأيكم سماحة السيد، في منع الفتيات من التعلّم؟
ج: نحن نقول إنّ العلم هو حقّ للفتاة وللشاب على حدٍ سواء، وليس هناك أي فرق بينهما: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، {
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9] من دون فرق. العلم هو القيمة، لأنّه بالعلم يكبر العقل، وبالعلم تنمو الطاقة، وبالعلم تمتدّ الحياة وتنفتح على التجارب الغنيّة التي يمكن أن تطوّر الواقع، ونحن عندما ننطلق في الحركة الحضارية، فإنّ الحركة الحضارية إنّما تأتي من خلال العلم.
الإنسان الذي يعيش في بيئة جاهلة متخلفة، ربما ينعكس جهل هذه البيئة وتخلّفها على طريقة تمثله للأشياء وعلى تركيبة ذهنيته
س: كيف تنظر إلى تلك المنطقة في العالم، والتي ترتكب فيها الجرائم المختلفة تحت عناوين إسلامية؟
ج: المشكلة أنّ هناك حالاً من التخلّف والجهل، حتى عند الذين يصدرون الفتاوى، لأنّهم يعيشون في الدائرة الضيّقة التي تتدخّل في وعيهم للفتوى في هذا المجال أو ذاك المجال، لهذا فالمسألة تتمثّل بسيطرة التخلّف، لأنّ الإنسان الذي يعيش في بيئة جاهلة متخلّفة، ربّما ينعكس جهل هذه البيئة وتخلّفها على طريقة تمثله للأشياء وعلى تركيبة ذهنيته.
واقع المرأة اللبنانية
س: سماحة السيد، من واقع معايشتك للمجتمع اللّبناني، كيف تقوّم وضع النساء فيه؟
ج: في لبنان، لا تزال بعض المناطق تعيش حالة البداوة القبلية في تقاليدها وعاداتها، وخصوصاً في مسألة جرائم الشّرف، وفي اعتداء الرجل على المرأة، باعتبار أنّ بعضهم يتحرّك على أساس ما هو موجود عند مواطنينا المسيحيين، من أنّ الرجل هو رأس المرأة، وهذا غير موجود في الإسلام، فنحن نقول إنّ الرجل والمرأة يتساويان في الحقوق والواجبات، استهداءً بقوله تعالى: {
ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف}، أمّا قوله: {
وللرجال عليهنّ درجة} [البقرة:228]، فالدّرجة تتعلّق بقضيّة الطلاق، لأنّ الرجل هو من يتحمّل مسؤوليّة الإنفاق على الحياة الزوجيّة. وأمّا مسألة القوامة، فالقوامة تعني الإدارة وليس السّيادة، فالرّجل ليس سيّد المرأة، وما يحكم الرجل والمرأة هو العقد الزوجيّ، فليس للرّجل إلا الحقّ الذي يفرضه العقد، وليس للمرأة إلا الحقّ الذي يفرضه العقد، أمّا خارج نطاق مفردات التعاقد، فالمرأة حرّة في أمورها والرّجل حرّ، ولذلك فإنّ المرأة إذا كانت تملك مالاً، فليس لزوجها ولا لأبيها ولا لابنها ولا لأخيها أيّ حقّ فيه، فلها أن تتصرّف فيه من دون أن تستشير أحداً، إلا كما يستشير الإنسان أهل الخبرة.
في لبنان، هناك مجتمعاتٌ لا تزال تعيش الحالة القبلية والحالة العشائرية في قضايا المرأة، وفي المقابل، هناك نساء مثقّفات واعيات أخذن بأسباب العلم
إنّ هناك مجتمعات في لبنان تعيش الحالة القبليّة والحالة العشائريّة، فقد نسمع بين وقت وآخر بجرائم الشرف على خلفية إشاعة توجّه ضد المرأة الزوجة أو المرأة البنت مثلاً من دون أيّ تدقيق في الأمر، لأنّهم يعتبرون أنّ مجرّد نشوء الإشاعة يمثّل العار للعائلة أو للأسرة أو ما إلى ذلك. وهناك أيضاً في المقابل نساء مثقّفات واعيات أخذن بأسباب العلم.
ولكنّ المشكلة التي انطلقت فيها الحضارة الغربية والحديثة، هي أنّ الاتجاه العام في النظرة إلى المرأة هو أنّها جسد، وأنّها مجرد إنسان يشتهيه الرجل، وهذا ما نلاحظه الآن في المدارس المختلطة، إذ إنّ الغالبية من الشباب ينظرون إلى أقرانهم من الفتيات في الجامعة أو المدرسة من الناحية الجمالية والناحية الجسدية التي تعبّر عن الاشتهاء والخداع وما إلى ذلك.
ونحن نرى، كما هي النظرة الإسلامية، أنّ للمرأة شخصيّتين كما للرجل شخصيتان؛ شخصية الأنثى وشخصية الإنسان، ونرى أنّ شخصية الأنثى محدودة في دائرة الحياة الزوجية أو في دائرة المجتمع النسائي، فللمرأة أن تلبس ما انطلقت به صيحات الموضة عندما تكون في مجتمع نسائي أو عندما تكون مع زوجها في البيت، فالإسلام لم يحرمها من ممارسة أنوثتها في الحدود الشرعية، لكنّه يرى أنّ ممارسة هذه الأنوثة تكون في داخل الحياة الزوجية أو داخل المجتمع النسائي الذي لا يثير أيّ شيء سلبي، ولكنّ المرأة عندما تعيش في المجتمع المختلط، فهي إنسان له عقل وفكر وتجربة وهدف وحركة؛ وكذلك الرجل، فهو يعيش شخصية الذكر وشخصية الإنسان، بحيث يعيش ممارسته الذكورية في داخل الحياة الزوجية، وأمّا شخصيته الإنسانية، فتتمثل في حركته العلمية والثقافية والسياسية.
قلنا إنّه لا مانع من أن تُنتخَب المرأة وتَنتخِب، ولكنّ مشكلتنا في البلدان الشرقية، أنّ المرأة حتى الآن لا تثق بالمرأة، فهي قد تصوّت للرجل ولكنّها لا تصوّت للمرأة
ونحن لا نمانع في أن تنطلق المرأة لتشارك في العمل السياسي، وقد أفتينا في بعض الاستفتاءات التي جاءت من الكويت تسأل: هل للمرأة أن تنتخب أو تُنتخَب؟ وقلنا إنّه لا مانع من أن تنتخب المرأة وتُنتخَب، ولكنّ المشكلة في لبنان وفي كثير من البلدان الشرقيّة الأخرى، أنّ المرأة حتى الآن لا تثق بالمرأة، فهي قد تصوّت للرّجل ولكنّها لا تصوّت للمرأة غالباً، ولذا فإنّ عدم نجاح المرأة في الانتخابات لا ينطلق من الدونيّة الّتي يشعر بها الرّجل تجاهها، بل ينطلق حتّى من خلال المرأة التي لا تثق بالمرأة.
المعارضة الداخلية في الإسلام
س: أريد أن أنطلق إلى موضوع آخر وأسألك: هل يسمح الإسلام بالمعارضة الداخلية؟
ج: لا إشكال في أنّ الإسلام يسمح بالمعارضة الداخلية، والمعارضة على قسمين؛ فهناك المعارضة التي تخطّط وتعمل لإسقاط الإسلام، وهناك المعارضة التي تنطلق في داخل الحياة الإسلامية ضدّ الحاكم وضدّ القانون الذي تضعه السلطة التي تتحكّم بالناس. ونحن نقرأ في هذا المجال نصّاً للإمام علي(ع) في زمن خلافته يقول: "فلا تكلّموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة ـ يعني أهل السيف والقوّة ـولا تخالطوني بالمصانعة ـ يعني بالمداراة والمجاملات ـولا تظنّوا بي استثقالاً لحقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحق، أو مشورةٍ بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي".
فالإمام(ع)، وهو في أعلى درجات العصمة، بحسب عقيدتنا، كان يدعو النّاس إلى أن ينتقدوه، وحتى الخلفاء الراشدون الذين سبقوه، كان الناس يعترضون عليهم في بعض الأمور التي يعتقدون الخطأ فيها، ويذكر أنّ امرأةً اعترضت على الخليفة عمر، ورأى الحقّ في اعتراضها، وكان يقول كلمته المأثورة: "حتى النّساء أفقه منك يا عمر".
المعارضة في الإسلام حقّ، بل إنّ مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر التي تمثّل القاعدة الإسلامية لرقابة المجتمع على المجتمع، ورقابة المجتمع على السلطة، تمثل معارضةً أيضاً
لذلك، فإنّ المعارضة في الإسلام حقّ، بل إنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تمثل القاعدة الإسلامية لرقابة المجتمع على المجتمع، ورقابة المجتمع على السلطة، تمثّل معارضةً أيضاً. فإذا رأينا إخلالاً بالنظام العام، فإنّ علينا أن نأمر من يخلّ بهذا النظام بالمعروف وننهاه عن المنكر، وكذلك الأمر إذا كان هناك من يفسد في الأرض، سواء كان فساداً إدارياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً. والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب، وليس مجرّد حالة معارضة اختيارية يمكن للإنسان أن يفعلها أو يتركها.
المعارضة وولاية الفقيه
س: هل هذه المعارضة ممكنة في دولة تحكمها ولاية الفقيه؟
ج: نعم، لأنّ الفقيه ليس إنساناً معصوماً، حتى إنّ القانون الإيراني يفرض أنّه إذا انحرف الفقيه، فعلى مجلس الخبراء أن يعزله، وكذلك إذا فرضنا أن السلطة، سواء كانت سلطةً عسكريةً أو سياسيةً أو اقتصاديةً، أخلّت بمصلحة الناس أو بالالتزام بالقانون، فمن واجب الشعب أن ينقدها في هذا المجال. وفي إيران التي قد ينتقدها البعض ويؤيّدها البعض الآخر، نجد أن الشّعب يعاقب نوّابه وحكّامه.
الفقيه في الدولة الإسلامية لا يملك السلطة المطلقة التي تجعله يحكم بأمره كديكتاتور
ونحن نرى من خلال الانتخابات الإيرانيّة بين دورة وأخرى، أنّ البعض يسقط وإن كان قد نجح في دورة سابقة، لأنّ الشعب لا يتعبّد لحكّامه، وكذلك هناك أناس ينتقدون الوليّ الفقيه، وإن كان النظام العام ربّما يتحفّظ عن ذلك، لكن بحسب القانون، فالفقيه في الدولة الإسلامية لا يملك السلطة المطلقة التي تجعله يحكم بأمره كديكتاتور.
الشورى التي يقول البعض إنها تمثل الأكثرية أو أهل الحلّ والعقد، لا بدّ فيها من اختيار شخص يملك النظرة الإسلامية العامة الواسعة في قضايا الحكم والسلطة والواقع كلّه
س: لماذا لا تقول، سماحة السيد، بالولاية المطلقة للفقيه؟
ج: إنّ مسألة الولاية تنطلق من النّصوص في الكتاب والسنّة، ومن خلال دراستي الاجتهاديّة، لم أجد نصاً غير قابل للمناقشة في أنّ النظام الإسلامي يعتمد على ولاية الفقيه، بل إنّ رأيي هو ما جاء في القرآن الكريم: {
وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38]. ومن الطبيعيّ أنّ الشورى التي يقول البعض إنّها تمثّل الأكثرية أو أهل الحلّ والعقد، لا بدّ فيها، حتى في الدولة الإسلامية، من اختيار شخص يملك النظرة الإسلامية العامة الواسعة في قضايا الحكم والسلطة والواقع كلّه والعلاقات، وأن يكون محاطاً بمستشارين في القضايا التي تحتاجها الأمّة، يعني، لو فرضنا أنّ الأمّة أو أهل الحلّ والعقد اختاروا شخصاً مدنياً، فإنّ على هذا الشخص المدني أن يرجع في الحكم، حكم الدولة الإسلامية إلى الفقهاء الذين يعطونه الرأي السديد، كما يرجع الناس الآن في الدول الديمقراطية إلى أهل القانون أو المجلس الدستوري أو ما أشبه ذلك، وهذا موجود في إيران، من خلال مجلس الخبراء مثلاً، الذي يمكن أن يصوّب قانوناً أو يخطئ قانوناً، ويمكنه أيضاً أن ينصّب الولي الفقيه أو يعزله.
أجرى الحوار: نسرين صادق
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 04 ربيع الثاني 1430 هـ الموافق: 29/04/2009 م