السيد فضل الله للباحثة (مادونا مراد):
الحوار يحتاج إلى ذهنية تنطلق من الاستعداد لتقبّل الآخر والاقتناع بما يقدمه إليه
سألت الطالبة، مادونا مراد، سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، عن قضايا في الحوار الفكري الديني المسيحي الإسلامي، وهذا نصّ الحوار:
ا
لحوار الفكري الديني الإسلامي المسيحي
س: سماحة السيد فضل الله، بصفتك من أبرز من اعتمد الحوار العقلاني الديني في لبنان، كيف تقيّم التجربة الراهنة للحوار الفكري الديني الإسلامي المسيحي، عربياً ولبنانياً، ولجنة الحوار المسيحي ـ الإسلامي في لبنان، ومؤتمر مدريد للحوار بين الأديان الذي عقد بدعوة من الملك السعودي؟
ج: عندما ندرس المؤتمرات أو اللقاءات الحوارية التي تؤكد في عناوينها الكبرى الحوار الإسلامي المسيحي أولاً، وحوار الأديان المتنوعة ثانياً، فإننا نلاحظ أن الحوار لم ينطلق، في أكثر هذه التجارب، من دراسة المضمون الفكري للإسلام أو للمسيحية، بحيث يدخل الطرفان في حوار حول نقاط اللقاء والافتراق في المفهوم العقيدي أو في المفهوم الإنساني في علاقة الإنسان بالإنسان، أو في التشريعات التي يمكن أن يتضمنها الدين المسيحي أو الإسلامي، بل إنّ هذه اللقاءات والمؤتمرات، بشكل عام، أقرب إلى اللقاءات الاحتفالية منها إلى اللقاءات الحضارية الحوارية العلمية التي يبحث فيها عن الجوامع والفوارق فيما بين هذا الدين وذاك.
وهكذا الأمر في لبنان، فالحوار يبحث في حقوق المسلمين والمسيحيين الوطنية السياسية من دون أي دخول في المسألة الدينية الثقافية. فنحن لا نسمع حتى من رجال الدين المعنيين بالمسألة الدينية الثقافية، أي حديث حول العناصر الفكرية التي يتضمنها هذا الدين أو ذاك، بل كل ما يبحث فيه، هو وضع المسيحيين والمسلمين في لبنان والمنطقة، وهو ما لا يجعل لعنوان الإسلام والمسيحية أي بعد في أصل الحوار، لأن القضية تنطلق من العلاقات بين إنسان وإنسان من دون النظر إلى الانتماء الذي ينتمي إليه هذا أو ذاك، بل إنّ الانتماء يمثّل اللافتة التي تميز طرفاً عن آخر، بحسب الواقع.
نحن لا ننكر أنّ هناك بعض الحوارات والمؤتمرات في الغرب بين المسلمين والمسيحيين، ربما تدخل المسألة الثقافية في مضمونها، وخصوصاً عند الحديث عن نظرة الدينيين إلى الحرية، وإلى حقوق الإنسان أو إلى المرأة، وغير ذلك من العناوين التي تشغل تفكير الإنسان المعاصر، بما قد يسلّط الضوء على بعض المفاهيم هنا وبعض المفاهيم هناك.
أما مؤتمر حوار الأديان الذي عُقد في إسبانيا بإشراف الملك السعودي، فهو لا يتعدى كونه مؤتمراً احتفالياً أُريد من خلاله أن يجمع بعض الذين ينتمون إلى هذا الدين أو ذاك، ولكن من دون الدخول إلى العمق الفكري الذي يتميز به هذا الدين بحسب مضمونه الثقافي عن الدين الآخر. وعلى الرغم من تأكيد المؤتمر ضرورة أن يحافظ المنتمون إلى الأديان المختلفة على السلام فيما بينهم، وأن لا يثيروا المشاكل فيما بينهم وأن يتحاوروا، إلا أننا نجد أن الدعوة إلى الحوار لم تكن جديةً وواقعيةً، ولاسيما أن الوضع السياسي العالمي اختلطت فيه الأوراق، خصوصاً ما يتعلّق بسيطرة اليهود على فلسطين، وتشريد أكثر أهلها منها، واحتلال ما تبقى من أراضيها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى موضوع الغرب والتعقيدات التي تشغل الكثيرين من الغربيين، وخصوصاً في الجانب الأمني والسياسي الذي تمثل باحتلال أمريكا العراق وأفغانستان، وتحريكها الفوضى التي أطلق عليها بوش اسم الفوضى البنّاءة، والتي تحرّكت في أكثر من بلد إسلامي، كالصومال والسودان وإيران وسوريا ولبنان وما إلى ذلك.
لذلك نستطيع أن نلخّص الفكرة، بأننا لا نجد إلا نسبةًَ ضئيلةً جداً من حوار حقيقي بين الأديان، ويمكن أن يقال إنّ ما يجري هو حوار بين المنتمين إلى الأديان حول العلاقات الإنسانية فيما بينهم.
الفكر الأصولي والفكر التكفيري
س: كيف تنظر سماحتك إلى مسألة تنامي الفكر الأصولي، وخصوصاً الفكر التكفيري لدى عدد من الجماعات الدينية الإسلامية؟ وما هو، في رأيك، تأثيرها على الحوار الديني المسيحي ـ الإسلامي؟
ج: أنّ ما يسمى الفكر الأصولي إنّما نشأ مما يمثله الفكر الوهابي في فلسفته التي تتحرك في تكفير كل من يخالف هذا الفكر في الرأي حتى لو كان من المسلمين، وربما نجد بعض هذه الخطوط في الاتجاه التي يستحل فيه المسلم دم المسلم الآخر باعتباره مشركاً أو مرتداً، انطلاقاً من اختلافه معه في تفسير آية قرآنية أو توثيق حديث نبوي، أو ما إلى ذلك مما نجد مظهره في تفكير تنظيم القاعدة الذي يتحرك على أساس العنف الدامي، ومن دون تفريق بين مسلم ومسيحيّ.
ولقد تركت الأصولية الإسلامية تأثيراً كبيراً في الواقع الإسلامي، وفي علاقة المسلمين مع الآخرين، كما هو الحال في الأصولية اليهودية وحتى الأصولية المسيحية، والتي يطلق عليها الآن اسم المسيحية المتصهينة أو ما إلى ذلك، لأن الأصولية تنطلق من القاعدة التي تعتبر العنف، بما فيه العنف الدامي، هو الأسلوب الذي لا بد للإنسان من استخدامه ضد الإنسان الآخر الذي يختلف معه دينياً وسياسياً وثقافياً.
ومشكلة الأصولية الإسلامية، أنّ خطورتها على المسلمين أصبحت أكثر من خطورتها على المسيحيين، فنحن لا نجد أن هناك مشكلةً كبرى أو عنفاً دامياً ضد المسيحيين في المناطق العامة، حتى إنّ ما حدث في 11أيلول لم يكن مسألة إسلام ومسيحية، ولذلك فإن الذين قتلوا في مركز التجارة العالمي كانوا من المسلمين والمسيحيين، اليهود وحدهم هم الذين لم يقتلوا، لأنهم، بحسب بعض المعلومات، كانوا يعرفون ماذا سيحدث، بقطع النظر عن صوابية هذا الكلام أو عدم صوابيته.
لذلك نحن نعتقد أن الأصولية الإسلامية التي تؤمن بالعنف الدامي، تمثل الخطر على المسلمين أكثر مما تمثّله على المسيحيين، وإن كانوا في خطابهم يتحدثون عن الصليبيين، إلاّ أننا لا نلحظ في الواقع أية حركة للأصوليين المتطرفين ضد الإنسان المسيحي العادي في العالم المسيحي، إلا في بعض الحالات الفردية، والتي لا تمثل حالةً جماعيةً، كما قد يحدث في العراق في بعض الاغتيالات الفردية للمسيحيين، ولكن الاغتيالات التي تحدث للمسلمين أكثر من ذلك بكثير.
الحوار بين الأجيال
س: غالباً ما يكون هناك تباعد فكري ونفسي بين جيل الشباب وجيل الكبار، وحتى العقلاء منهم، ومع ذلك، نرى أن الخطاب المعتمد من سماحتك هو خطاب عقلاني هادىء ومتماسك وناضج ويلقى قبولاً وبشغفٍ من مختلف فئات الأعمار، وخصوصاً الشباب، ومن مختلف الانتماءات الدينية والمذهبية والمناطقية في لبنان والعالم العربي والإسلامي. وعليه، ماذا تريد أن تقول سماحتك للشباب اللبناني بخاصة، والعربي بعامة، مسيحيين ومسلمين، في شأن الحوار؟
ج: بدايةً، أنا أنطلق في هذا الأسلوب الإنساني المنفتح على الإنسان كله من دون وجود أية عقدة ضد الإنسان الآخر الذي يختلف معي في الرأي، لأنني أعتقد أنه إذا كان من حقي أن أختلف مع الآخر، فمن حقّ الآخر أن يختلف معي، والحوار هو الذي يمكن أن يجعله يفهمني أو أفهمه، ويمكن أن يقودنا إلى الوحدة إذا استطعنا أن نقنع بعضنا بعضاً أو أن نتفاهم أو نتقارب، بحيث يفهم كل واحد منا الآخر، وهذا الأسلوب انطلقت به من خلال المنهج القرآني، فنحن نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً} [الإسراء:53]، وأيضاً نقرأ قوله تعالى: {
ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:125].
وممّا نقرأه في قوله تعالى:
{ولا تجادلوا أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ
إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ـ لأن الظالم ليس في وارد الحوار ـ
وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46]. ثم نقرأ: {
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64] للبحث عن مواقع اللقاء قبل الدخول في مواقع الخلاف. ونقرأ أيضاً: {
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم} [فصّلت:34]، اتّبع الأسلوب الذي تحوّل به أعداءك إلى أصدقاء.
ولذلك كنت أقول للصحفيين الغربيين: إن القرآن الكريم يعلّمنا أن نعمل على أن نكون أصدقاء العالم. ونحن عندما ندرس أسلوب الحوار في الإسلام، نرى أنه الأسلوب الذي لم يقترب منه أي أسلوب حضاري، لأن الأساليب الحضارية تنطلق من قاعدة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، بينما القرآن يقول: {
وإنَّا أو إيّاكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين} [سبأ:24]، فهناك حقيقة ضائعة بيننا، فقد أكون على هدى أو على ضلال، وقد تكون على هدى أو على ضلال، فتعال نترافق من أجل اكتشاف الحقيقة.
لذلك، أنا تعلّمت من القرآن أن أحترم الرأي الآخر وأقبله حتى لو اختلفت معه من الناحية الفكرية. ولذلك فإنني انطلقت منذ أوائل الخمسينات بالحوار، فكنت أحاور الماركسيين والقوميين في العراق، وحتى عندما أتيت إلى لبنان عام 52 م، كنت أجمع الشباب من انتماءات مختلفة وأحاورهم.
ولذلك، فإنني أدعو الشباب إلى أن لا يخضعوا للتعقيدات التي يثيرها الكبار الذين خضعوا للعصبيات العمياء، لأنهم استطاعوا من خلال هذه العصبية الدينية، أن يثيروا الكثير من النزاع والقتال، وأن يربكوا البلد ويدمروها، وأن يبعدوا الناس بعضهم عن بعض. لذلك على الشباب أن يعيشوا تجربتهم هم ليصنعوا منها مستقبلاً يمكن أن يجعل وطنهم وطناً منفتحاً، بحيث تكون عملية العيش المشترك عمليةً تنطلق من الجذور لا من خلال العناوين السطحية، ليبنوا البلد الذي يضمّ الجميع، بعيداً عن الطائفية والمذهبية، لأن الطائفية لا تستفيد منها إلا الزعامات، فمثلاً، نحن نعرف أنّ رئاسة الجمهورية هي للموارنة، ولكن ماذا يستفيد الفقراء الموارنة من رئاسة الجمهورية؟ رئاسة الوزراء هي للسنة، ولكن ماذا يستفيد فقراء السنة؟ وكذلك بالنسبة إلى الشيعة والأرثوذكس وغيرهم.
لذلك نحن نقول إن على الشباب الواعي المنفتح على العالم، أن يعمل على أن تكون الدولة مؤسسةً، وأن تتحول المؤسسة إلى كيان يحمي المنتمين إليه، ويعمل على حلّ مشاكلهم، وأن لا يكون هناك احترام إلا للقانون الذي يشمل الجميع، فلا يكون هناك ابن ستّ وابن جارية. هذا ندائي إلى الشباب دائماً، وندائي إليهم أيضاً أنّ علينا أن نصنع جيلاً جديداً في لبنان على أنقاض الجيل القديم الذي كان مشكلةً للبنان، ليكون الجيل الجديد حلاً لهذا الوطن.
تطبيق الوحدة الدينية عملياً
س: على الصّعيد الفكري الإيماني، نحن نعرف أنّ مصدر الدّيانة عند المسلمين والمسيحيين واحد، فكيف يمكن أن نجعلهم على الأرض موحّدين كما مصدرهم، أي كيف نجعلهم يعيشون المحبة والسلام على الأرض؟
ج: إنّ مسألة المحبة هي مسألة إنسانية إيمانية، فمن الممكن جداً أن تختلف المسيحية مع الإسلام في بعض جوانب اللاهوت، ولكننا عندما ندرس القيم الأخلاقية والروحية والإنسانية في الإسلام والمسيحية، لا نجد أن هناك فرقاً بين مسلم ومسيحي، فليس هناك صدق مسيحي وصدق إسلامي، وليس هناك أمانة مسيحية وأمانة إسلامية، أو عفة مسيحية وعفة إسلامية.
لذلك، عندما ننطلق من خلال أننا نوحّد الله جميعاً {
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64]، وإذا اتّفقنا على الإيمان بالله وحده، وعلى أن يتساوى الناس، فلا يكون الإنسان رباً لإنسان آخر، عند ذلك نستطيع أن ندخل إلى أفق المحبة التي يرتكز عليها الإسلام والمسيحية. نحن نقرأ في المسيحية أن الله محبة، ونقرأ في حديث النبي محمد(ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها"، وفي القرآن الكريم حديث عن الرحمة: {
وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} [البلد:17]. وأيضاً ورد في الحديث: "تخلّقوا بأخلاق الله"، وبما أنّ الله هو الرحمن الرحيم، فعلينا أن نكون الرحماء فيما بيننا.
غياب المرأة عن ساحة الحوار
س: سماحة العلامة، من الملفت غياب المرأة عن الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان والعالم العربي، إذ إنني لم أقرأ كتاباً أو مقالةً ولا حتى محاضرةً حول هذا الموضوع شاركت فيه امرأة، مع كونها تشكل نصف المجتمع، فما سبب هذا الأمر في رأيك؟
ج: إنّ مشكلة المرأة في العالم الشرقي بشكل عام، وفي بعض العوالم الأخرى، كأفريقيا ومناطق آسيا، وحتى بعض مناطق أمريكا اللاتينية وغيرها، أنّها عاشت في التاريخ على هامش الرجل، ولذلك لم يُسمح لها بأن تدخل المجتمع من الباب الواسع، وحتى إن الجانب الثقافي لها كان جانباً متأخراً حتى في أوروبا قبل النهضة الأوروبية التي حدثت. ولذلك فإن المرأة لم تدخل ساحة الصراع، سواء كان الصراع ثقافياً، أو دينياً، أو ما إلى ذلك.
ولكنّ المرأة في العصور الحديثة انطلقت لتأخذ بأسباب الثقافة والعلم، فأصبحت تدخل الجامعة، وأخذت تتثقّف بالثقافة الأدبية والفلسفية، ولكنّ مشكلة المرأة الأميّة في العالم هي مشكلة الرجل الأميّ، وإن كانت مشكلة المرأة أخطر وأعمق باعتبار أنها تمتدّ في التّاريخ.
س: هل النبوّة حكر على الرجال؟ لماذا لم نسمع بأي نبيّة؟
ج: لقد اختار الله الأنبياء باعتبار الإمكانات التي كانوا يتميزون بها فيما يملكونه من فكر وقيم وتجارب، ولم يكن للمرأة في مدى الزمن الذي انطلق به الأنبياء، إمكانات تمكّنها من حمل الرسالة، كما أن المجتمع في تقاليده ونظرته إلى المرأة كان لا يتقبل ذلك.
أسلوب حلّ النـزاعات الدينية
س: عندما نتحدّث عن حوار بين طرفين، يعني أن هناك نزاعاً أو خلافاً، فهل تستطيعون تحديد معالم النـزاع أو الخلاف الفكري بين المسيحيين والمسلمين، وإنني لم أطلع من خلال قراءاتي على أي نزاع حول القرآن أو الإنجيل...؟
ج: النزاع هو أن المثقفين المسيحيين لا يرون أن القرآن وحي من الله تعالى، وإنما يرون أنه من صنع النبي محمد(ص)، وأنه كتاب بشري، كما أن المسلمين لا يعتقدون أن ما في الإنجيل هو الصادر عن السيد المسيح بشكل مباشر، لأنه كتب في وقت متأخر، ولذلك هناك مداخلات ثقافية كثيرة ناقشت مسألة هل إن الإنجيل محرّف أو ليس محرَّفاً؟ هل إن التوراة تمثل التوراة التي أنزلها الله تعالى على النبي موسى، أو أنّها ليست كذلك؟
س: هل ترون أن الصراع ليس سياسياً، بل هو صراع ديني؟
ج: أنا أعتقد أنّ الصراع السياسي كان يتّخذ الدين لافتةً له لجذب الناس، باعتبار أن الدين حالة تؤثر في الواقع الداخلي للإنسان من خلال عنوان المقدّس، لأن عنوان المقدّس هو الذي يجذب الناس، كما كانوا يعتقدون أن الحروب الصليبية دينية، وهي لم تكن حروباً دينيةً، وإنما كانت حروباً سياسيةً هدف السياسيون من خلالها إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط.
بين الأسطورة والتاريخ
س: ذكر محمد أركون، المفكر المغربي، في كتابه "الفكر الإسلامي قراءة علمية"، أن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتوصل حتى الآن إلى التمييز بين الأسطورة والتاريخ، وأن هذا الخطاب يتجاهل التحولات التاريخية التي حصلت ابتداءً من العام 632م، والتي أبعدت العصر الحالي عن تجربة دولة المدينة، فكيف تقيّمون حضرتكم هذا المنطق؟
ج: أنا أختلف مع الأستاذ محمد أركون فيما يقوله، لأني ألاحظ أن هناك تجارب جيدةً في نقد التاريخ الأسطوري، ونحن نعرف أن الأديان قد تنفتح على الغيبيات غالباً في نظرتها إلى الشخصيات الدينية أو إلى بعض الحالات الدينية، ولذلك دخلت الأساطير في التفكير الديني، ولكننا نتصور أن هناك أشخاصاً يملكون التخصص في التاريخ، استطاعوا أن ينقدوه ليميزوا بين الأسطورة والحقيقة فيه، بحسب المقاييس العلمية الموجودة عندهم في القواعد التي يرتكز عليها التاريخ الصادق، وليست المسألة بالإطلاق الذي يتحدث عنه الأستاذ أركون.
س: مثل مَن سماحة السيد؟
ج: كطه حسين، مثلاً، عندما تحدث عن عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه أنه هو الذي اقتحم الواقع الإسلامي واستطاع أن يقسّم المسلمين وأن يصنع التشيع، فهو يدرس المسألة على أساس من هو هذا الشخص الذي يملك مثل هذه القدرة والقوة، بحيث يخترق المجتمع الإسلامي ويدخل فيه ما يشاء، في وقت كان صحابة النبي(ص) موجودين ويملكون الكثير من المعلومات. وفي الواقع الشيعي، هناك السيد مرتضى العسكري، الذي ناقش أيضاً مسألة عبد الله بن سبأ مناقشةً علميةً من ناحية المصادر التي تحدثت عن هذا الرجل، وعنده أيضاً كتاب مائة وخمسون صحابياً مختلفاً، يتحدث فيه عن وجود أسماء للصحابة لا واقعية لها، ولكنها أقحمت من أجل بعض الخلفيات الموجودة، وأيضاً هناك نقدٌ لبعض ما ينقله السنة أو الشيعة من التاريخ.
س: وهل السيد محمد باقر الصدر منهم؟
ج: السيد محمد باقر الصدر، كان يتحدث غالباً في الجانب الفلسفي والاقتصادي، وليس في الجانب التاريخي.
س: سماحة العلامة، هل إن الإسلام كدينٍ وعقيدةٍ هو دين حوار، أو أن شموليته تجعله يكتفي بما عنده ولا يرى بالتالي مبرراً لقبول الآخر؟
ج: عندما ندرس القرآن الكريم، نجد أنه كتاب الحوار الأول، فقد حاور المسيحيين وتحدث عن عقائدهم وناقشها، وتحاور مع اليهود ومع أهل الكتاب بشكل عام، كما حاور المشركين والكفار والملحدين والمنافقين. وقيمة القرآن الكريم أنه كتاب حركي يواكب حركة الدعوة الإسلامية ويوجّهها ويصوّبها، وأنا أنطلق من قاعدة أنه لا مقدسات في الحوار، وأن الله تعالى حاور إبليس مثلما حاور الملائكة.
آليات الحوار
س: في رأيكم، ما هي الآليات الأكثر ملاءمةً ومشروعيةً للواقع اللبناني خصوصاً، وللعرب عموماً، لإقامة حوار مسيحي ـ إسلامي حقيقي يؤدي إلى حالة من التفاهم العميق والسلام الدائم بما يتجاوز التناقضات السياسية الحالية، وبالأخص الاختلافات العصبية والمذهبية؟
ج: بدايةً، علينا كمسلمين أو مسيحيين أن لا ننطلق في اعتبار المسيحية أو الإسلام طبلاً يدقّ عليه الطائفيون ليجمعوا الناس حولهم، لأنّ الحوار يحتاج إلى ذهنيّة تنطلق من الاستعداد لتقبّل الآخر والاقتناع بما يقدمه إليه، ولكن الواقع الموجود، هو أن كل واحد ينتظر من الآخر أن يأتي إليه. لذلك نحن لا نعيش ذهنية الحوار، وحتى إننا لسنا مستعدين لأن نصحح الأخطاء التي يمكن أن تكون موجودةً في تفكيرنا الإسلامي مما نؤمن به تجاه المسيحي، أو العكس أيضاً. ولذلك نجد العصبية حتى في داخل الدين الواحد. الآن، لو أن شخصاً مفكراً في الدين الإسلامي انتقد بعض ما يعتبره المسلمون من المسلَّمات، وهو ليس من المسلَّمات، أو أن شخصاً في الدين المسيحي انتقد ما يعتقده المسيحيون من المسلَّمات وهو ليس من المسلَّمات، فإنه سوف يُرجم بالحجارة. فالمشكلة عندنا هي أننا لا نعيش الذهنية الموضوعية العقلانية الحوارية التي تتقبل الآخر، وإن كانت لا تؤمن بما يؤمن به الآخر.
س: سماحة العلامة، هذه التجربة التي تتكلم عنها حضرتك مُعاشة بين الناس في الأديرة والمؤسسات الدينية الأخرى؟
ج: من المؤسف أن الواقع العام في مناطقنا العربية، وربما الإسلامية والشرقية بشكل عام، أنهم لا يعيشون العقلانية الحوارية، وإنما يعيشون العصبية، ونحن نجد أن التعقيدات السياسية التي جاءت من خلال الدول المستكبرة، ومن الملوك والرؤساء والأفراد الموظفين عند المستكبرين، هي التي منعت هذا الانفتاح الذي يمكِّن المسلمين من أن ينفتح بعضهم على بعض. نحن نرى أن هناك اضطهاداً للفكر الآخر في أغلب البلدان الإسلامية، وأن البلدان الإسلامية، وحتى بعض البلدان المسيحية، تحكمها قوانين المخابرات وقوانين الطوارىء التي تمسك على الناس أنفاسهم، وحتى الآن، نلاحظ أن أمريكا التي تُعتبر بلد الحرية، أصبحت تمنع الكثير من المعلومات في عالم الإعلام، باعتبار أن هذا قد يسيء إلى سياسة الدولة أو قد يسيء إلى اليهود.
شكراً لكم سماحة العلامة...
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 23 شعبان 1429 هـ الموافق: 25/08/2008 م