رجل الحوار:
المرجع الشِّيعي السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه رجل حوار بالمعنى العميق للكلمة، فهو يبحث عن مواطن اللِّقاء لدى من يُحاوره، وإن كان لا يتنازل عن التزاماته، موضحاً في حديثٍ لـ"سناء الجاك" أنَّ الالتزام يعني الانفتاح فيما التَّعصُّب يعني الانعزال. من هنا شكَّل فضل اللّه في الحياة الفكريّة والفقهيّة العربيّة والإسلاميّة علامة فارقة، فهو رجل تغيير نحو الحداثة والتَّطوُّر. طلع السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه من البؤس وعايش الموت طفلاً في النَّجف، ليُواجه عدَّة محاولات اغتيال، أعنفها كان وضع متفجِّرة في منطقة بئر العبد في ضاحية بيروت الجنوبيّة، ذهب ضحيتها أكثر من مائتي شخص. وهذه المواجهات مع الموت لَم تُغيِّر شيئاً مما هو فيه. ارتبط اسمه لفترة من الزَّمن بـ «حزب اللَّه» رغم نفيه ونفي «حزب اللَّه» ذلك. أثارت فتاويه مواقف متناقضة بعضها مُعارض إلى درجة التَّكفير وإهدار الدَّم وبعضها معجب بجرأة الرَّجل الذي لا يتوانى عن السِّباحة عكس التَّيار المألوف ما دام يعتقد أنَّ اجتهاده في مسألة من المسائل هو أولاً وأخيراً لمصلحة الإسلام. حظيت المرأة في أبحاثه بحصَّةٍ كبيرة فهو يعتبرها مظلومة وضحية نظرة عنصريّة اجتماعيّة تعود إلى بقايا الجاهليّة.
ظروفه الأمنيّة لا تسمح له بالتَّجوّل أو النُّزهة، لكن المعوَّقات الدَّنيويّة لا تمنع السيِّد من التَّوغُل عميقاً في وجدانه ليُنشئ جنَّته ويستمتع بها ويفيض شعراً، ينسج منه عوالِم ملونة من الجمال والخيال.
ذكريات الطُّفولة:
س: ماذا يستعيد السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه من ذكريات النَّجف الطُّفولية؟
ج: في النَّجف كنَّا نعيش مناطق البؤس، فقد كان في بيتنا من خلال الفقر الذي كان يُطبق علينا. كان غذاؤنا محدوداً، كنَّا نتعشى غالباً خليطاً من اللَّبن ودبس التَّمر مع بعض كسيرات الخبز، كنَّا لا نجد الكثير ممّا يلبسه النَّاس المتوسطو الحال. ولا نجد الملاعب التي تلعب فيها طفولتنا. كنَّا قد أدمنا البؤس تماماً كما يُدمن الإنسان المرض، ولا ننفتح كثيراً على التَّرف في المجتمع الذي نعيش فيه إلاَّ لماماً، الفقر كان يُمثِّل القضاء والقدر في اللاوعي الطُّفولي لذا لَم يُشكِّل كارثة، لعلَّه كان يُشكِّل لدينا شيئاً من الإحساس الذي يتألَم بهدوء.
س: هل كنتَ تشعر أنَّ النَّجف ليس الوطن وأنَّ في البال وطناً اسمه لبنان، ينبغي لكم العودة إليه؟
ج: كنَّا نسمع بلبنان من خلال أقاربنا، يأتون إلى النَّجف لزيارة الأماكن المقدسة، وكنتُ أقرأ عن لبنان، لا سيَّما أنَّ قراءاتي بدأت مبكرة، لذلك كان لبنان في الخيال، وإن بقيت الصُّورة ضبابية، لا أدري هل كنَّا نُفكِّر في تلك المرحلة الطُّفوليّة به وطناً نُحبَّه، أو أنَّ المسألة أنَّنا عشنا مناخ النَّجف واستغرقنا فيه، بحيثُ لَم يكن لبنان في طفولتنا هو المستقبل.
س: كيف تفتح وعي ووجدان السيِّد فضل اللّه على النَّجف وبيئتها الدِّينيّة؟
ج: النَّجف كانت تتميَّز بميزاتٍ عدَّة، تطلُّ على الصَّحراء من جهة وفي هامش هذه الصَّحراء يجري نهر صغير متفرِّع من الفُرات وحوله بساتين تُسمَّى الجدول، تبعد عدَّة كيلومترات.كنَّا نخرج إليها في طفولتنا القاتمة، ونمرح، حينها كان الإنسان يعيش مع الصَّحراء لا شعورياً معنى الامتداد المطلق. وعلى الكنف الثَّاني للنجف كانت مقبرة السَّلام، أكبر المدافن في العراق على الأقل، والمعروف أنَّ أغلب الشِّيعة في العراق يُدفنون هناك. وكُنَّا نستقبل كلَّ يومٍ الجنائز، لكنَّنا لَم نكن نُحسُّ عمق الموت، ونظراً لرحابة المقبرة في الصَّحراء فكان يُخيَّل لنا أنَّ الموت هو الامتداد الغامض للحياة في ما بعد الحياة، وذلك من خلال الإحساس الدِّيني الذي يربطُ بين حياتين، فالموت ليس رمزاً للعدم المطلق في هذا المجال.
بين الواقع والمأساة:
س: وماذا عن التَّأسيس الدِّيني الذي تستعيده من النَّجف؟
ج: النَّجف كانت المزار الدِّيني لكلِّ الشِّيعة في العالَم، باعتبار وجود مقام الإمام عليّ ابن أبي طالب (ع) الذي يُمثِّل قِيمَّة دينية للمسلمين عامَّةً وللشّيعة على وجه الخصوص، لذلك في مواسم الزِّيارة نلتقي بأصناف البشر من قوميات مختلفة، وكانت النَّجف أيضاً تحفل بالمناسبات الدِّينيّة، لا سيَّما عاشوراء وامتداداتها وذكريات أهل بيت النبيّ (ص)، وكنَّا نعيش أحاسيس متنوّعة من خلال صرخات الحزن في مأساة هذه الواقعة التَّاريخيّة وتنتابنا مشاعر قلقة وحزينة وخائفة عندما تخرج المواكب التي ينْزع فيها اللّطامون ثيابهم ليلطموا أنفسهم لطماً عنيفاً أو الذين يضربون رؤوسهم بالسُّيوف. كنَّا نعيش انفعالات متضاربة بين شيء اعتيادي وبين حالة نفسيّة غامضة لا تنفعل إيجابياً.
س: ألَم تُحدِّد العلوم الدِّينيّة الأفق في مسيرتك الفكريّة؟
ج: لعلَّ في الأهازيج والقصائد الشَّعبيّة التي كانت تحملُ جانباً سياسياً وتُثقّف الإنسان، وكذلك المظاهرات المتنوّعة التي تتحرَّك من الجهات السِّياسيّة، ما يجعل الإنسان يعيش بين الواقع السِّياسيّ والمأساة الإنسانيّة، وكذلك تتميَّز النَّجف بأنَّها الحوزة العلمية الكبرى في العالَم الشِّيعي التي كانت تحتضن قوميات متعدِّدة،كما تُشكِّل نوعاً من أنواع التَّداخُل والتَّفاعُل بين هذه القوميات، ومن الطَّبيعي أنَّ الدِّراسة كانت تتمحور حول الفقه وأصوله والفلسفة، وما يتبعها من علوم اللُّغة العربيّة.
س: أين كان الشِّعر في أجواء النَّجف؟
ج: كانت النَّجف إلى ذلك مدينة شاعرة بحيثُ أنَّ الإنسان يتنفس الشِّعر فيها، لا سيَّما شعر المناسبات، ممّا يجعل الإنسان الذي يملك قابليّة شعريّة أن يولد شاعراً ويتنفس الشِّعر، ولأنِّي نشأتُ في هذا الجوّ، قلتُ الشِّعر في سنِّ العاشرة، لا سيَّما أنِّي أنتمي إلى عائلة شعرية تعود إلى بلدة عيناتا في الجنوب اللبناني، ما يجعل الشِّعر حالة جذريّة في شخصيتي حتَّى في الطُّفولة، وأعتقد أنَّ هذا الجوّ استطاع أن يُغني شخصيتي بهذا التَّنوّع الحضاري الذي قد يأخذ مسحة من الجانب التَّقليدي، لكنَّه في عمقه منفتح، وهذا ما جعلني في أواخر طفولتي بين سن 11 و 12 عاماً أتوجَّه لقراءة الصُّحف المصرية واللبنانية، كما بدأت في تلك المرحلة قراءة المؤلفات العربيّة والتَّرجمات وأعيش في تلك المدينة التَّقليديّة آفاقاً أوسع. كنتُ أعيش الثَّقافة، ولذا لَم أكتب أسلوباً تقليدياً وإنَّما أسلوباً معاصراً.
س: ألَم تجذبك العلوم والرِّياضيات؟
ج: لَم أدرس الدِّراسة الأكاديميّة، وإن دخلتُ لفترة قصيرة مدرسة عنوانها ديني وفيها دراسة أكاديميّة.
س: ألَم يكن لديك خيارٌ آخر سوى التزام الدِّراسة الدِّينيّة؟
ج: أنا من عائلة دينيّة، ونشأت في هذا المحيط النَّجفي، وتوجيهي الدِّيني كان طبيعياً جداً بحيثُ لا يشعر من يعيشه بالمأساة في هذا المجال، ربَّما لأنَّ المناخ لَم ينفتح على أفقٍ آخر. ربَّما كنَّا نعيش شيئاً من الألَم نتيجة هذا المجتمع المنغلق، لكنَّه لَم يصل إلى حدِّ الثَّورة. ولَم أشعر بوجود ضغطٍ نفسي كبير لأنِّي انفتحتُ على هذا المناخ الغني بالثَّقافة والسِّياسة، حتَّى أنِّي حين أسترجع ذكرياتي في بدايات شبابي أذكر بأنني كنتُ أجلس مع منتمين لتيارات فكريّة وسياسيّة علمانيّة كالشِّيوعيين والدِّيمقراطيين والقوميين العرب، وكنتُ أدخل معهم في حوار بين أفكارهم وبين الإسلام، ولَم أكن أتعقَّد من أيّ شخصٍ آخر على قلة ثقافتي الإسلاميّة آنذاك.
الخصام أم الحوار الواعي:
س: ألَم تكن تُخاصم من يُخالفك الرَّأي ولو كان نقيضك؟
ج: أبداً، كانت لي صداقات مع الشِّيوعيين والقوميين، كنَّا نتبادل الزِّيارات من دون مشكلة في الوقت الذي لَم أكن متساهلاً في التزامي، ولكنِّي كنتُ أفرِّق بين التَّعصُّب والالتزام. أن يتعصَّب الإنسان يعني أن ينغلق على الآخر، وأن يلتزم يعني أن ينفتح أكثر وأن يُحافظ على التزامه. كان الحوار مسألة أساسية لديّ، إن في النَّجف أو لدى عودتي إلى لبنان حيثُ كنت أتناقش مع جميع التَّيارات التي كانت تنبض في المجتمع اللبناني إبان الخمسينات من القرن الماضي.
س: ألَم تكن تحلم بمهنة ما كالمحاماة أو الصَّحافة أو التَّعليم الأكاديمي عوضاً عمَّا أنت عليه الآن؟
ج: لا، لَم أفكِّر في ذلك.
س: هل تعتبر أنَّ رجل الدِّين يُمارس مهنة أو يُؤدِّي رسالة أو أنَّه يرثُ هذا الالتزام؟
ج: بواكير الوعي المتفتح التي فرضت على شبابي الأوَّل كانت تفتح لي الآفاق بحيثُ لَم أكن أشعر بوجودي في سجنٍ ثقافيّ أو إنسانيّ. كنتُ أنفتح على الأجواء الثَّقافيّة والأدبيّة بشكلٍ حر.
س: أنا لَم أسأل إن كنتَ مرغماً على خياراتك، إنَّما ألَم تكن مُسيراً إلى هذه الخيارات؟
ج: لَم أُفكِّر في ذلك. كنتُ مرتاحاً لما أنا فيه، ومتصالحاً مع الواقع ولَم أُحسُّ بوجود أيّ عُقد، لا سيَّما أنَّنا في النَّجف كنَّا مع الجيل الأوَّل الذي أسميه جيل الطَّليعة والتَّغيير، كنَّا نُفكِّر في تغيير المناهج والأفكار ومسائل الانفتاح على الثَّورة. كنَّا نعيشُ شيئاً من الرِّسالة الثَّورية للتغيير. لَم نكن منفعلين بالواقع، ونعيش تحت وقعه، بل كنَّا متمرِّدين عليه نعمل على أن نخرج منه وكنَّا ندعو إلى التَّغيير في الهواء الطَّلق.
س: والدك من علماء الدِّين المعروفين بهيبتهم، ألَم تكن تخاف ردَّة فعله حيال التَّمرُّد والسَّعي إلى التَّغيير؟
ج: لعلَّ والدي من الشَّخصيات النَّادرة في المجتمع، كان يُصادق أولاده، لَم أذكر أنَّه ضربني مرَّة أو أنَّه نهرني. كانت تحديقة عينيه تُشعرني بالتَّأنيب، فأُعيدُ النَّظر في ما أنا فيه. إلاَّ أنِّي كنتُ جريئاً عليه أناقشه في أشياءٍ لا تُناقش مما كان المجتمع الدِّيني يرفض مناقشتها باعتبارها من المسلَّمات العامَّة. كان يستمعُ إليَّ ويتحدَّث معي بكلِّ حرية. لقد عوّدني على مناقشته والاعتراض عليه، حتَّى أنِّي كنتُ أشغله وأشغل العائلة عندما كنَّا نجلس للغداء أو العشاء بالأفكار التي كنَّا نتحدَّث فيها. لعلَّه كان يُمثِّل الإنسان الرَّحب الصَّدر الواسع الأفق بالرَّغم من هيبته التي قد يُلاحظها النَّاس الذين يُواجهونه. ربَّما يُفكِّر البعض أنَّه شخصٌ تقليدي، لكنَّه لَم يكن كذلك، لذلك لَم أشعر بأيِّ ضغطٍٍ أبوي كما يُحسّه الولد أمام والده في المجتمعات المحافظة، ولعلَّ له دوراً كبيراً في تنمية شخصيتي الفكريّة.
المشاكل الإنسانيّة تحطِّم الحواجز الطَّائفية:
س: الاحتكاك الأوَّل لسماحتكم في السَّاحة اللبنانية كان مع منطقة النَّبعة وهي الضَّاحية الشَّرقية الفقيرة لبيروت، كيف تستعيدها؟
ج: ـ أستعيد النَّبعة ـ كمجتمع ـ يُمثِّل الشَّعب الذي يعيش من في داخله من لبنانيين وفلسطينيين. ربَّما كانت صورة للمنطقة المتخلِّفة التي غُيِّب عنها التَّنظيم للواقع الذي يعيشه النَّاس فيها، من خلال الكثافة السُّكانيّة والفوضى العُمرانيّة وقلّة الاهتمام البلدي بالنَّاس وما ذلك إلاَّ لإجبارهم على دفع الضَّرائب.ولكنِّي كنتُ أجدُ داخل النَّبعة الكثير من اللَّمعات الإنسانيّة والثَّقافيّة والاجتماعيّة والمبادرات السِّياسيّة التي قد تنطلق من خلال ما يفرزه البؤس من التَّشنجات السِّياسيّة، أو ما تتحرَّك به السَّاحة في تلك المرحلة اللبنانية من هذا العنف الذي انطلق من قلب القضيّة الفلسطينيّة ليتوزّع على العالَم. لذلك كان مجتمع النَّبعة حيّاً في حركيته مع الاختلاف في روحيّة هذه الحياة وتصوراتها وتطلّعاتها المستقبليّة وآلامها القاسيّة، وأحلامها التي قد تكون فيها لوناً من خيال. كانت منطقة تطلُّ على لبنان كلّه، لا سيَّما لبنان المستضعف، فكنَّا نُلاحظ ابن الشَّمال والجنوب والبقاع والدّرزي والماروني والشِّيعي والسُّني والأرمني والفلسطيني والكردي.. هذه المنطقة التي سُميت بمنطقة البؤس كانت اختصاراً لكلِّ لبنان البائس الذي يبحث في نفايات البؤس عن شيء يقتاته عقله أو قلبه أو حياته. وتلك هي مشكلة البؤس الذي يُجاور التَّرف فيتطلّع إليه بعينين غاضبتين، لأنَّ بلداً يُقال له بلد الإشعاع يعيش فقدان التَّوازن الإنساني، ويشعر أنَّ هناك قلباً لا نبضات فيه يقسو على قلوب تبكي. وربَّما لاحظنا أنَّ هذه المنطقة البائسة التي كانت تثور على الظُّلم المفروض عليها، هي التي استهدفتها الفتنة اللبنانية من خلال الذِّهنية الطَّائفية المتمثِّلة بالحرب ضدَّ النَّاس لتجتاح هؤلاء الشَّاهدين على الظُّلم الاجتماعيّ والطَّائفيّ والسِّياسيّ. لذلك بقيت النَّبعة ذكرى للحقد الطَّائفي والبؤس الإنساني. كانت ذكرى تجربة يُراد لها أن تعيش في لبنان في تلك المنطقة وبقية المناطق لتُمثِّل هذا النَّوع من التَّناسق اللبناني بين الطَّوائف والتَّيارات، فقد حاولوا أن يفشلوا هذا النَّوع من المجتمع المختلط الذي لَم يدخل الطَّائفية باعتبار أنَّ مشاكله الإنسانية حطَّمت كلَّ الحواجز الطَّائفية لتجعل الإنسان يعيش آلامه مع الإنسان الآخر. لذلك لا بُدَّ أن تدرس النَّبعة كعنوان في المجتمع الفقير المستضعف اللاطائفي الذي لَم يوافق الطَّائفيون على بقائه في هذا التَّناسق. وتلك هي العقيدة التي أفرزتها الحرب اللبنانية، وهي أن تجمع كلَّ طائفة في مجتمع وتخاف أن تمتد إلى مواقع الطَّوائف الأخرى ليعود لبنان مناطق غير متحدة وليس ولايات متحدة.
المرأة كاملة الإنسانيّة والواقع استضعفها:
س: تتوقف عند أبحاثك ودراساتك بشأن قضية المرأة. كيف تُحدِّد الثَّغرة التَّاريخيّة التي تستوجب مثل هذه الأبحاث؟
ج: أنا أعتقد أنَّ إنسانيّة المرأة مظلومة، والنَّظرة سلبية سواء إلى عقلها، كما في بعض المجتمعات الدِّينيّة، أو إلى قدرتها على العطاء الفكريّ والرُّوحيّ والإنتاج العمليّ. في دراستي للمرأة من النَّاحية القرآنيّة لَم أجد أنَّ القرآن أعطى الرَّجل ما لَم يُعطِ للمرأة، فالقرآن تحدَّث كما لو كانا يُمثِّلان نوعين إنسانيين متكاملين، المرأة تُشارك في كلِّ النَّشاطات وتتعاون مع الرَّجل، ومن الممكن أن تكون أكثر عقلاً وأكثر هدوءاً من الرِّجال في مواجهته التَّحدِّيات. أمَّا القوامة فإنَّها تُمثِّل الإدارة في البيت الزَّوجي وليس شاملة لكلِّ الواقع الإنساني. كما أنِّي درست المرأة في الواقع، فوجدت أنَّها لا تقل عن الرَّجل عندما تدخل في التَّجربة الثَّقافيّة والعمليّة بقدراتها الذِّهنيّة، لأنَّها كاملة الإنسانيّة كما الرَّجل، وخصائصها الأنثوية لا تسقط الجانب القوي في شخصيتها، بل تُكرِّس تكاملها في الخصائص الأخيرة من خلال طبيعة الخطّ الفكريّ والخطّ الواقعيّ. لَم أجد المرأة تقلّ عن الرَّجل، لذلك حمَّلها اللّه مسؤولية في كلِّ مواقع الحياة كما حمَّل الرَّجل.
س: لكن التَّجربة التَّاريخيّة للمرأة في المنظار الدِّيني الاجتماعي لَم تكن كذلك؟
ج: إذا كان التَّعليم الدِّيني يريدها أن تعيش في النِّظام الأخلاقي، فالأخلاق ليست غريبة عن المرأة، بل اللّه يريد من الرَّجل ما يريد من المرأة في الالتزامات الأخلاقية سواء في الجانب العملي أو أي جانب آخر. ولعلَّها النَّظرة التَّقليديّة الموجودة عند النَّاس كونهم يخافون على المرأة من الانحراف الأخلاقي أكثر من الرَّجل. وأنا أعتبر أنّ هذه النَّظرة عنصرية، لأنَّ عناصر الانحراف في المرأة موجودة أيضاً في الرَّجل، لكنَّ النَّاس يعذرون الرَّجل عادة في انحرافه ويدافعون عنه بينما يحمِّلون المرأة مسؤولية شرف العائلة، لأنَّهم استضعفوها فحملوها هذه المسؤولية على طريقة:
لا يسلم الشَّرف الرَّفيع من الأذى حتَّى يُراق على جوانبه الدَّم
وهذه النَّظرة من بقايا الجاهلية. لذلك منذ انطلقت في العمل الاجتماعي وفي رسالتي أحاول أن أعطي المرأة الثِّقة بنفسها، وأدعوها إلى أن تمارس حقوقها، وأدعو المجتمع إلى أن يُعطيها هذه الحقوق، فالمجتمع الذي يعزل المرأة هو مجتمع غير مكتمل النُّمو.
وقفة مع الزَّواج المبكر:
س: لديك موقف لافت من الزَّواج المبكر أم تشجعه؟
ج: أنا أشجِّع الزَّواج المبكر، لأنَّ الجانب الجنسي جانب حيوي في شخصية الذَّكر والأنثى، وهو ليس عاراً أو عيباً، إنَّه تماماً كالطَّعام والشَّراب. هل نُناقش مسألة الشَّراب أو الطَّعام؟ قد يتحدَّث البعض عن ضرورة تأهيل الشَّاب والفتاة للحياة الزَّوجية. هذا التَّأهيل يمكن أن يتمَّ في ظلِّ الرِّعاية الأسرية بشكلٍ تدريجي. قد تكون هناك بعض السَّلبيات، لكن للعزوبية سلبيات أكثر. هناك حقيقة يجب أن نُلاحظها وهي أنَّ ليس في الحياة سلب من دون إيجاب أو إيجاب لا سلب فيه، عالمنا محدود نحن لا نربح شيئاً إلاَّ ونخسر شيئاً مقابله. أمَّا قضية الأولاد فلا يُمانع الإسلام من تنظيم النَّسل، لكنِّي أشجِّع الزَّواج حتى على مقاعد الدِّراسة.
س: هل يُجيد التَّلاميذ الاختيار.. هل تكون عقولهم مكتملة؟
ج: عندما ندرس المسألة حتَّى مع الكبار نجد أنَّ قضية الرَّغبة تتدخل في الزَّواج وأيّ إحصاء في الزَّواج غير المبكر نجد أنَّ المشاكل التي تعيش داخله لا تقل عن مشاكل الزَّواج المبكر، وربَّما في الزَّواج المبكر نسبة أقل من المشاكل، لأنَّ مسألة الزَّواج بشكلٍ عام غير مبنية على دراسة هادفة بين طرفين، ربَّما نجد أنَّ الغريزة تتدخل. والعلاقة بين الطَّرفين قبل الزَّواج، ـ ولا أقصد بها التَّجربة الجنسية ـ لا تُمثِّل التَّجربة الكاملة فكلّ طرفٍ يُعطي الآخر صورة إيجابية، والمشاكل تطرأ بعد الزَّواج داخل تعقيدات الحياة الزَّوجية. لهذا المسألة ليست بهذه البساطة حتَّى تُعطي فيها حكماً مطلقاً سواء في الزَّواج المبكر أو غير المبكر.
س: إذن كيف يُمكن ترويض النَّفس البشرية داخل المؤسسة الزَّوجية؟
ج: عندما ندرس المسألة بعيداً عن التَّقاليد ونسأل كيف نُعالج الإحساس الجنسي هل نُعالجه بالكبت أم بالانحراف أم بالزَّواج؟ نجد أنَّ الزَّواج المبكر يُشكِّل حلاً، وهناك القدرة على معالجة سلبياته بطريقة علميّة واقعيّة، وإذا كان هناك بعض النَّقص تعوضه الرِّعاية العائلية.
س: هل تعتبر الجنس هو السَّبب الأوَّل للزّواج؟
ج: الجنس هو القوَّة التي يشعر فيها طرفان بالحاجة الأولى للزَّواج، لكن المؤسسة الزَّوجية هي خلية اجتماعية علينا أن نعدّ أولادنا لها بطريقة الإشراف، تماماً كما نعدّهم للدخول إلى المدرسة التي تُشكِّل بدورها خلية اجتماعية.
س: تزوجت باكراً وأنجبت 11 ولداً، هل تملك الوقت الكافي لتتفرغ لهم وتمنحهم الوقت الكافي، وهل يخافونك أو يهابون الحوار معك فيلتزمون بما تُملي عليهم؟
ج: لا أعتقد أنَّ أيّ ولدٍ من أولادي يخاف مني. أعيش روحيّة الصَّداقة المعنويّة مع كلِّ أولادي.
س: ألا يوجِّهون إليك أسئلة محرجة، فالعالَم بات صغيراً وهم في مناخ ديني مختلف مما قد يشكِّل لديهم تضارباً في الأفكار؟
ج: أنا أعطيهم كلَّ الحرية في أن يتحدَّثوا معي كما يشاءون، وأعطيهم الوقت الكافي لأبقى على حوار معهم ولا أجد إحراجاً في أيٍّ من أسئلتهم.
في المسألة العلميّة نعود إلى أهل الخبرة:
س: المعروف أنَّ السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه يُواكب التَّكنولوجيا، أين تلتقي التَّكنولوجيا مع الإرث الدِّيني وأين تتناقض معه؟
ج: أعتقد أنَّ الدِّين ينطلق من بدايات التَّفكير الذي يُوجّه إليه الإنسان لاكتشاف اللّه من خلال اكتشاف أسرار الكون، وذلك انطلاقاً من قاعدة يرتكز عليها العلم الذي يكشف سرّ الوجود ويستهدي القوانين التي أودعها اللّه في الكون. وقد أكَّدت في أكثر من بحث أنَّ الإيمان يمرُّ بطريق العلم، والفكرة التي تقول إنَّ الإنسان يزداد بُعداً عن الإيمان كلَّما ازداد علماً خطأً، لأنَّ الإنسان يكتشف عظمة اللّه من خلال العلم.
س: لكنَّ البعض يقولون كيف يفتي رجل الدِّين في أمور علمية لا يبت فيها إلاَّ العُلماء الاختصاصيون، كما أنَّ الطَّبيب لا يُمكنه أن يفتي في الأمور الدِّينيّة؟
ج: هؤلاء يفهمون مسألة الدِّين كفكر معلَّب. لكن رجل الدِّين عليه أن لا يتحدَّث عن أيّ شيء من دون علم وأن يرجع إلى أهل الخبرة فيما يحتاجه، لذلك عندما كنت أعالج مسألة الهلال لتحديد أوَّل أيام شهر رمضان، رأيت أنَّها ظاهرة كونيّة زمنيّة لا علاقة للإنسان فيها. أن يرى أحدهم الهلال أو لا يراه لا يُغيِّر من واقع بداية الشَّهر لأسباب وقوانين موجودة في طبيعة نظام الكون. والرُّؤية كانت وسيلة للمعرفة، واليوم علينا أن ندرس من خلال أهل الخبرة في الفلك ونسألهم عن القوانين التي تتحكم في ظهور الهلال ودخوله المحاق وما إلى ذلك، وفي مسألة الاستنساخ ليس لدينا الخبرة اللازمة، وعندما طرح الموضوع وشغل بال النَّاس إن كان حراماً أو حلالاً أو منافياً للعقيدة، سألنا وفهمنا ما يتعلَّق بحركة الخلية، وعلمنا أنَّ الاستنساخ لا يخل بالقانون الطَّبيعي للخلية ومحتوياتها ولا يضع قانوناً جديداً. أمَّا في الجوانب الاجتماعيّة سواء سلبيّة كانت أو إيجابيّة، فلا نستطيع أن نحكم إلاَّ من خلال دراسة اجتماعيّة لهذه التَّجربة. نحن لَم نتكلَّم أو نفتِ بما نجهل، بل أخذنا الخبرة من أهل الخبرة.
لا أخاف الموت ما دمت رسالياً:
س: تعرَّضت إلى عمليات اغتيال، ماذا غيَّرت مواجهة الموت في نظرتك إلى الأمور؟
ج: لَم أعش حالة انفعالية سلبيّة وخائفة، لأنِّي عندما انطلقت من مواجهتي للاستكبار العالَميّ والصَّهيونيّ والظُّلم السِّياسيّ والاجتماعيّ في العالَم العربي كنتُ أنتظر ذلك، أعرف أنَّنا في عالَم لا يُحترم فيه الإنسان الذي يُفكِّر بطريقة مختلفة. قرأتُ في مذكرات رئيس المخابرات الأميركية السَّابق "وليم كيسي" أنَّه اجتمع مع بعض السُّفراء العرب وقال لهم: "إنَّ فضل اللّه أصبح مزعجاً وعليه أن يرحل". كنتُ أنتظر ذلك ولا أشعر بعقدة، لأنِّي أتحرَّك في خطِّ الرِّسالة وأعتبر مسألة الموت طبيعية في حياة الإنسان.
الضُّعف... التَّكفير... الارتباط بالحقيقة:
س: إلى أي مدى ترى مصدر الخطر من العالَم العربي والمسلم مقابل مصدر الخطر من العالَم الغربي؟
ج: أنا لست من النَّاس الذين يُفسِّرون كلَّ شيء بالمؤامرة ولستُ من الذين يُفسِّرون ضعفنا وسلبياتنا بسبب الاستعمار. أعتقد أنَّنا نختزل في داخل مجتمعنا الكثير من نقاط الضُّعف، والكثير من ذهنيات التَّخلُّف، والكثير من الأمراض المميتة في أخلاقياتنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا الاجتماعيّة وذهنيتنا السِّياسيّة ما يفسح المجال للذين يُصادروننا أن يستغلوا نقاط الضُّعف هذه.
س: كيف ترى عمليات التَّحريـم والتَّكفير السَّائدة؟
ج: أرفض هذا كلّه، لا سيَّما أنَّ مسألة التَّكفير والتَّحريـم استهلكت حتَّى خرجت عن مفهومها العلمي القديـم، لأنَّ الكفر والإيمان مسألة موضوعيّة لها عناصرها، وعلينا أن نحدِّق فيها، ولطالما قلت أنَّ الكفر نسبي والإيمان نسبي، والمسألة ثقافية فإنّها لا تحتمل أي تراشق بالتُّهم من إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر إذا خالفه في تفصيل ما، ليُبادر إلى تكفيره، خاصة وأنَّ هناك بعض الأحاديث التي تقول أنَّ الشَّك ليس كفرا،ً والنَّاس إذا شكوا ولَم يجحدوا لَم يكفروا.
س: مع التَّكفير سادت موجة منع الكتب... هل تعتقد أنَّ منع كتاب يحمي القارئ؟
ج: أنا من النَّاس الذين يقولون أنَّك إذا أردت أن تنشر فكراً لا تُعطِه الحرية، لأنَّ اضطهاد الفكر يجعله شهيداً والنَّاس تُحبُّ الشُّهداء. وبذلك يُمثِّل اضطهاد الفكر حركة في توجيه النَّاس إليه. كذلك أعتقد أنَّ بعض النَّاس الذين يمنعون فكراً لخوفهم على الإسلام فإنَّهم يعيشون الضُّعف الثَّقافي، فقد واجه الإسلام جبالاً من الأفكار المعتادة وبقي.
س: ماذا يُغضبك؟
ج: يُغضبني الظُّلم الذي يُوجَّه للنَّاس والمجتمعات، وأعيش توتراً نفسياً فوق العادة عندما أسمع أخبار ضحايا فلسطين وقصف المدنيين في أفغانستان. لا أشعر بالغضب عندما أواجه تجربة تخصني، ربَّما أشعر بالحزن.
س: هل تعتبر أنَّك أحدثت صدمة أو ثورة من خلال جرأتك وانفتاحك فيما العالَم يتجّه إلى مزيد من الانغلاق كلٌّ على طريقته؟
ج: لَم تكن ذهنية الصَّدمة أو الثَّورة هي الهاجس، كانت ذهنية الباحث عن الحقيقة، وأن يُقدِّم ما يؤمن أنَّه الحقّ بكلِّ صدق،ٍ لأنَّ القضيّة لا تتصل بالإنسان نفسه وإنَّما بالنَّاس باعتبارها ملكاً لهم لا سيَّما إذا كانت حقيقة إنسانية.
س: لديك تجربة في الشِّعر الملحن ألا تتناقض مع مفهومك الدِّيني؟
ج: اللَّحن إذا لَم يكن غرائزياً ومثيراً للانفعالات الضَّارّة بالإنسان فليس محرَّماً.
س: هل تستمع إلى الموسيقى؟
ج: لدي تحفظات شرعية في هذا الموضوع، ولَم أنشأ في هذا الاتّجاه.
س: هل تشعر أنَّك تستطيع النُزول إلى الشَّارع للتجول أو الذَّهاب للنُزهة في الطَّبيعة؟
ج: أحبُّ الطَّبيعة وأحبُّ الجمال كإنسانٍ شاعر، لكنِّي حوصرت بظروفٍ أمنية لا أملك فيها حريتي، ولا أذهب إلى قريتي عيناتا فأنا لا أملك أن أزور الجنوب إلاَّ في المناسبات.
س: هل أنت أسير موقعك؟
ج: لا أقول إنِّي أسير موقعي، لكن اهتماماتي هي أكبر من أن أعيش مع الطَّبيعة.