في لبنان وفاق إسلامي مسيحي... وبعض الجهات السياسية يزعجها ذلك

في لبنان وفاق إسلامي مسيحي... وبعض الجهات السياسية يزعجها ذلك

أجرت مجلة"الصياد" اللبنانية مقابلة صحفية مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ، وشملت عناوين مختلفة من أبرزها الشأن اللبناني بتداعياته المختلفة، وخاصة ما يعيق الحوار بين اللبنانيين، حيث رأى سماحته أن الحوار بينهم متحقق، ولكن سكنة الأبراج العاجية من مختلف المواقع هم الذين يعيقون الحوار، وهذا نص المقابلة:


سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، يمثل مرجعية إسلامية كبرى على مستوى الفتوى، وعلى المستوى السياسي أيضاً. يقصده المتدين لأخذ الفتوى الشرعية، ويقصده السياسي لأخذ الفتوى السياسية… منزله كائن إلى جانب كنيسة مار يوسف حارة حريك، وتجاور مسجد الحسنين الذي يصلي فيه سماحة السيد فضل الله، والتي تقرع أجراسها في كثير من الأحيان مع آذان المسجد في تناغم ديني يتناسب مع ذهنية وتفكير سماحة السيد فضل الله، الذي ساهم مساهمة كبرى في السعي لترميم الكنيسة وعودتها إلى ممارسة الشعائر الدينية المسيحية بعد الحرب…

فقهي ولاهوتي ومفكر سياسي في مزيج من الصفات قلَّ أن تجتمع في شخصية واحدة. وهذه الأبعاد جميعاً تمتزج في كلامه وحواراته لتعطيها صفات الغنى والفرادة والعمق، بحيث من الصعب فرزها لاستخراج ما قصده المحاور من السؤال، وما رمى إليه المحاور في الجواب، ولأن الاحاطة بكل ما يختزنه العلامة فضل الله من أفكار وطروحات ورؤى صعب في جلسة واحدة، حسبنا منه هذا الحوار، الذي إن هو إلا غيض من فيض.

س: سماحة العلامة زيارة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سوريا تشكل نقطة التقاء أساسية بين الإسلام والمسيحية، من موقعكم الفقهي والشعبي والسياسي كيف تنظرون إلى هذه الزيارة؟

ج: أتصور أن العلاقات بين الشعوب، وبين مختلف التيارات وفي مقدمتها الأديان، تحتاج إلى مناخ إنساني يلتقي فيه الناس الذين يتنوعون ليطرحوا العناوين الكبيرة التي تمثل مواقع اللقاء، لا سيما في الأجواء الاحتفالية التي تملك عناوين رسمية تندفع فيها هذه الدولة أو تلك في أجواء احتفالية شعبية منفتحة تتحرك في داخلها المشاعر والعواطف بحيث يغيب عن الناس كل ما اختزنوه من بعض التعقيدات التي تثيرها الحساسيات السلبية هنا وهناك. لأن مثل هذا اللقاء الذي لا تبحث فيه مواقع الخلاف بل مواقع اللقاء بطريقة شعورية، لا بد من أن يهدم الكثير من الحواجز النفسية، ويفتح المجال للكثير من الأفكار والطروحات التي تنطلق من أجل إيجاد لقاء هنا وهناك يتمم فيه الحديث عن العناصر المشتركة بين هذا الدين وذاك، أو بين هذا الفكر وذاك.

التقاء المسيحية والإسلام

لذلك فإني أعتقد أن الطروحات التي طرحت في الساحة سواء كانت طروحات انطلقت من شخصيات سياسية، وفي مقدمتها خطاب الرئيس الدكتور بشار الأسد أو من خلال حضرة البابا أو من خلال حضرة المفتي العام للجمهورية العربية السورية وغيرها استطاعت أن تعطي بعض المفردات التي تمثل اهتمامات الجماهير بما يتخطى سوريا إلى العالم العربي كما استطاعت أن تثير بعض القضايا الروحية التي ينفتح فيها الناس على الله الذي يتوحد الناس عنده، بعيداً عمن يريدون أن يختلفوا باسمه، والإسلام والمسيحية يلتقيان على أكثر من اسم من الأسماء المقدسة هنا وهناك وفي مقدمتها موضوع الزيارة وهو النبي يحيى الذي يطلق عليه في المسيحية يوحنا المعمدان الذي يمثل في النص القرآني نبياً من أنبياء الله خاطبه الله "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً وبراً بوالديه…"

ويعترف المسلمون والمسيحيون بشهادته في سبيل رسالته، هذا بالإضافة إلى التقاء المسلمين والمسيحيين على تقديس أكثر من نبي من الأنبياء ويلتقون في الدرجة الأولى مع السيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم عليها السلام وإن كانا يختلفان في مفردات العقيدة بالسيد المسيح ـ بين فكرة المسيحية من حيث قيام الربوبية على أساس فكرة التثليث، وبين فكرة الإسلام التي تقول عنه بأنه رسول الله أتاه الكتاب وجعله نبياً وجعله مباركاً {جعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} كما أن السيدة العذراء عليها السلام هي من السيدات اللواتي تقبلهن الله بقبول الحسن عندما دخل عليها زكريا المحراب ووجد عندها رزقا، قال يا مريم {أنىّ لك هذا قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب} قدسها القرآن وعصمها عن كل ما ألصق بها. حتى أن القرآن الكريم تحدث عن اليهود وقولهم على مريم عندما قالوا بهتاناً وإثماً عظيماً..

هذا بالإضافة إلى التزام المسلمين والمسيحيين بالإنجيل، حتى أن القرآن يقدم نفسه بأنه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، وأن المسلمين من خصائصهم أنهم يؤمنون بالكتاب كله، يعني بكل ما أنزله الله من كتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو القرآن، حتى أن الطرح القرآني في مسألة الحوار بين الإسلام والمسيحية يؤكد هذا المعنى{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ألا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون} وكلمة القرآن أيضاً{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.

وهكذا من خلال الإيمان بالإنجيل والقرآن الذي يصدق الإنجيل كما يصدق التوراة نؤمن بالقيم المشتركة الروحية والأخلاقية والإنسانية، ومن هنا فنحن كنا نقول دائماً للمسيحيين بأن القضية بيننا وبينكم في الواقع المعاش هي القضية التي نلتقي فيها معكم بثمانين بالمئة لأنه يحدثنا عن أخلاقياتنا وعن إنسانياتنا وعن قيمنا، وهي قيم مشتركة بين الإسلام والمسيحية…

أما قضية اللاهوت والتفاصيل القانونية فهي قضايا لا تتحرك على الأرض في حياة العامل والفلاح بالمعنى الفلسفي أو بالمعنى الفكري.

نحو حوار علمي

لذلك فإننا نعتقد أن هذه الزيارة يمكن أن تعطي مناخاً إيجابياً يتنفس فيه الناس روح اللقاء بين الإسلام والمسيحية كدينين كبيرين عظيمين يحكمان العالم بشكل كبير جداً، مما يؤدي إلى حوار علمي في اللاهوت قد يقارب بين الدينين، في ما يختلفان فيه من اجتهادات العلماء هنا وهناك تماماً كما هي الدعوة للحوار والتلاقي بين المسيحية الكاثوليكية والمسيحية الارثوذكسية لأن الحوار هو الذي يختصر الطريق إلى اللقاء بين دين ودين أو بين فكر وفكر، ومن الممكن جداً كما طرحنا سابقاً أنه علينا أن نلتقي في مستوى العالم مع المسيحية على عنوانين كبيرين وهما الإيمان بالله الواحد في مواجهة المادية، والوقوف ضد المستكبرين لمصلحة المستضعفين لأن محمد كان مستضعفاً ولأن عيسى كان مستضعفاً، ولأن اتباعهما غالباً هم ممن يؤمنون بالقيم ويمثلون الاستضعاف في العالم كله، اتباعهما في مستوى القيمة لا في مستوى الشعار فحسب… وإنني أرى إيجابيات كبيرة لا بد من أن نلاحقها ولا بد من أن نستفيد منها، ونحن كنا نتمنى في لبنان أن نعيش هذه الروح حتى مع الاختلاف في المفردات أي أن نعيش مسيحيتنا على مستوى القيمة وإسلامنا على مستوى القيمة، حتى في القضايا السياسية التي نختلف فيها فلا يتحدث المسلمون أن هناك حرماناً لهم من قبل المسيحيين كما كان الحديث سابقاً، أو أن يتحدث المسيحيون أن هناك احباطاً يلاحقهم وسببه المسلمين، أو أن يشكك هذا الفريق أو ذاك الفريق، في وطنية هذا أو ذاك، وفي إيمان هذا أو ذاك بالحرية والاستقلال، مما يتراشق فيه الناس بالكلمات الحادة في المسألة السياسية بما قد يثير الغرائز ولا يحرك العقل.

الوفاق الوطني الحاضر الغائب

س: سماحة العلامة رغم مرور أكثر من عشر سنوات على اتفاق الطائف، وانتهاء الحرب اللبنانية، لا زال الكثيرون يتحدثون عن غياب الوفاق الوطني، وبالتالي عن استشراء الحالة الطائفية في البلاد. فما هي نظرتكم إلى الوفاق الوطني وكيف الوصول إلى وأد الحالة الطائفية في لبنان؟

ج: إنني في الشق الأول من السؤال اختلف مع الذين يقولون أن الوفاق الوطني لم يحصل في لبنان لأن الذي يمثل الوطن هو الشعب، وعندما ندرس الشعب اللبناني، العامل والفلاح والتاجر والمثقف والرياضي وما إلى ذلك، فإننا نجد وفاقاً وطنياً لبنانياً يتحرك في كل ما يعيشه اللبنانيون، دلني على أية مشكلة واقعية ميدانية تأخذ عنوان المسلم والمسيحي؟ أين هي المشاكل التي قد تحدث بين التجار المسلمين والتجار المسيحيين؟ أو بين العمال المسلمين والعمال المسيحيين؟ أو ما إلى ذلك، فهي نفسها التي تحدث بين المسلمين أنفسهم والمسيحيين أنفسهم.

س: وهل هذا يعني أن الوفاق حاصل في البيوت وغائب في القصور؟

ج: هناك وفاق وطني حقيقي، ونلاحظ أن المسيحيين والمسلمين معاً يعانون من المشكلة الاقتصادية التي قد تصل إلى مستوى الكارثة. إن المسلمين والمسيحيين يعانون معاً من فقدان المشاريع الإنمائية في مختلف المناطق، بينما الوفاق الوطني على مستوى الشعب موجود، ففي المواقع الرياضية مثلاً لا تجد هناك فريقاً رياضياً لا يختزن في ذاته المسلمين والمسيحيين، وهكذا في المواقع الكشفية وفي المواقع الثقافية والصحافية، أية صحيفة تمثل المسيحيين مئة بالمئة أو المسلمين مئة بالمئة؟ كما أن هناك شكلاً من أشكال الوفاق الوطني في المعنى الرسمي بقطع النظر عما يفسر من خلفيات، فالمجلس النيابي الذي يمثل الشعب بالطريقة السياسية للديمقراطية يلتقي فيه المسيحيون والمسلمون، ومجلس الوزراء كذلك، وهكذا نجد أيضاً في المواقع العليا موقعاً متقدماً للمسيحيين هو موقع رئاسة الجمهورية وموقعين للمسلمين في رئاسة الوزراء وفي رئاسة المجلس النيابي. لذلك عندما ندرس مسألة الوفاق الوطني في المعنى الذي يمثل وحدة الوطن في الجانب الميداني، فإننا لا نجد انفصالاً بين موقع وموقع، ولذلك فإنه وعلى المستوى الذي يفكر فيه الناس العاديون بالانفصال عن الناس الآخرين، ليس هناك شيء من هذا القبيل في لبنان، كما هو موجود في البوسنة والهرسك بين الصرب والمسلمين والكروات…

هناك عقدة في لبنان، تطرح في أن الوفاق الوطني لم يحصل لأن هناك شخصية سياسية لا تملك الحرية في العمل السياسي لأنها موجودة في السجن، وأن هناك شخصية سياسية موجودة في المنفى…

أنا أتساءل مع كل الاحترام لكل الشخصيات، ومن دون أن أدخل في عملية التقويم من هذه الناحية، هل يتوقف الشعب كله وتتوقف مسيرة الوفاق الوطني على ما يتصل بشخصيتين مع كل التقدير لدور هذا ودور ذاك بقطع النظر عن الصواب والخطأ في المسألة؟ هل يجوز أن يجمد الوفاق الوطني في هذه الدائرة؟

هذا شيء غير معقول إلا في لبنان، ولو عرضته على العالم كله لرأيت أن العالم قد يسخر منا، في أننا نجمد المصلحة الوطنية العليا في لقاء اللبنانيين مع بعضهم، لأن هناك تعقيدات قضائية، أو سياسية قد تكون أوهاماً هذا أمر غير معقول أبداً.

هناك حديث آخر في أن اللبنانيين يتحدثون عن الحريات، وعن بعض المفردات التي تسيء إلى الحرية من خلال اعتقال شخص هنا، وشخص هناك من دون مذكرة، أو من خلال إعطاء الحرية لفريق وعدم إعطاء الحرية لفريق آخر، أو من خلال الوجود السوري أو ما أشبه ذلك… هذه قضايا لبنانية تفصيلية قد تحصل في أي بلد، ولا بد من أن توضع صيغة للحوار حولها، ومن الطبيعي أن بلداً يتحرك تاريخه بالحساسية التي لا تختزن عقلاً بل تنطلق من خلال الغريزة، لا يمكن لك أن تثير القضايا في الهواء الطلق، لا لأننا نمنع الناس من أن يتحدثوا لكن الصراخ لن يعطي حلاً لأي مشكلة بل يعقدها. كما أن الفوضى في خطاب ينطلق في مهرجان هنا وخطاب ينطلق في مهرجان هناك، لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية، عندما تكون هناك قضايا تحركت في خلفياتها وجذورها، عبر خطوط دولية أو خطوط إقليمية أو فوضى محلية لا تزال تفرض نفسها على البلد، فإننا لا نستطيع أن نعالج كل هذه الأمور وسط الصيحات والصراخات.

قد نحتاج في بعض الحالات إلى أن نصرخ لينتبه الآخرون إلى أن هناك مشكلة كما يصرخ الطفل عندما يجوع لينبه أمه إلى حاجته إلى الرضاعة أو إلى الغذاء، ولكن لا أن يكون الصراخ هو العنوان الكبير لحركاتنا السياسية خصوصاً وأننا نلاحظ أن الطروحات في الغالب تأخذ عنواناً وطنياً تتحرك من مواقع طائفية، من دون أن نوصم هذه المواقع بالتطيف السياسي، ولكن الحساسيات اللبنانية تحاول أن تجتذب الاتهامات بالطائفية ولو من خلال آلاف الكيلو مترات! عندما ندرس الوجود السوري، ولا نريد الدخول في التفاصيل، نعرف أن هناك وضعاً دولياً ما بالإضافة إلى الوضع الإقليمي الذي يشمل العالم العربي على الأقل في هذه المرحلة، وما يوجد من انقسام اللبنانيين حوله، فهو لا يعالج بخطابات سلبية أو متحمسة يعني الإيجابية المتحمسة، أو بحمل الفؤوس والسكاكين والعصي، إنما يعالج بالعقل البارد في المواقع التي يمكن أن تحل بعض مشكلاته أو تعالج بعضها، حتى قضايا الحريات التي يحاول البعض أن يربطها بالوجود السوري، أو بالوضع الأمني وغيره من هذه الأمور الميدانية، عندما يقال نريد الحريات، من الذي يعالج هذه القضية وكيف؟ هل يمكن أن تعالج بعض القضايا التي تتصل بالقانون أو بحركية القضاء واستقلاليته، أو بالاتفاق بين دولة ودولة بالخلفيات.

بهذه الطريقة المهرجانية؟ كان ينطلق مئات الآلالف هنا ويقابلهم مئات الآلاف من هناك؟ هكذا لا تحل المشاكل… لذلك أنا أتصور أن هناك وفاقاُ وطنياً لا يريد البعض له أن يعيش، كما أن هناك عملاً في الأبراج العاجية الدينية السياسية ـ ولا أتحدث عن فريق معين ـ يؤلمها أن يتفق الشعب، ولا تريد للناس أن ترتاح من كل هذا التعب الاقتصادي والأمني الذي يلف حاضرهم ومستقبلهم، لذلك أعتقد أنه علينا أن نرجع إلى الحكمة المأثورة "إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب".

الأبراج العاجية:

ونحن نعرف أن الذهب عندما تملكه فإنك تبحث عن كيفيات تحريكه بالتأمل والتخطيط والحديث الهامس الذي قد يكون من قبيل ما يقال التفكير بصوت مسموع، لا يصرخ كثيراً ولكنه يفكر كثيراً. لذلك فأنني أعتقد بأن مسألة الوفاق الوطني موجودة، ونقول للكبار الذين يجلسون في الأبراج العاجية:"لقد وفيتم قسطكم للعلى" لقد اتعبتمونا كثيراً، أعطونا شيئاً من الراحة، لأن لبنان المعاصر قد عاش الكثير فلا تزيدوا معاناته.

س: وماذا تقولون عن الطائفية المشتركة اليوم؟

ج: أما قضية حل الطائفية السياسية فدعني أدخل في تحليل نفسي فلسفي لهذه المسألة، أنا أقول للقمة أن ترتفع إلى القاعدة، لأن القاعدة تملك قمة الواقع، والقمة تملك قمة التمنيات، إنني أتحدث الآن عن المناطق المختلفة في لبنان والتي هي الساحة التي يمكن للطائفية أن تطل فيها برأسها لتخلق مشكلة هنا وهناك. وإنني لا أجد مشاكل حقيقية بين الناس في المناطق المختلطة، أنا من منطقة بنت جبيل وهناك أكثر من قرية مسيحية، هناك عين أبل ورميش ودبل والقوزح الخ… لم ينقل لي في التاريخ الذي سبق ولادتي، ولم أشهد في الواقع أية مشكلة بين المسيحيين والمسلمين، فالمسلمون يشاركون المسيحيين تجارياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، والمسيحيون كذلك، حتى أنني كنت أرى أن بعض المسيحيين من عين أبل أو رميش يأتون للمرحوم الوالد، وكان من العلماء الكبار هناك، ليتحاكموا عنده في ما يختلفون فيه بينهم، وكنت أجد الشعراء والأدباء من المسيحيين يأتون في مناسبات المسلمين ويلقون نتاجهم الأدبي والعكس صحيح.

وفي المسألة السياسية لم يكن هناك نائب مسيحي،متفق عليه، وهكذا نائب مسلم، حيث كان المسيحيون يختلفون تماماً كما يختلف المسلمون أيضاً في اختيار هذا المرشح، أو ذاك المرشح، وكذلك في منطقة مرجعيون وهكذا في مناطق بعلبك، وفي العام 1920 حصلت مشكلة في بنت جبيل، بين المسيحيين والمسلمين وكان سببها فرنسا التي أعطت للمسلمين سلاحاً وللمسيحيين سلاحاً وخوّفت هؤلاء من أولئك وحدثت بعض المشاكل، ولكنها طويت فوراً بالمحبة. هناك في منطقة بنت جبيل مسلمون ومسيحيون كما في منطقة الشمال، فما هي المشكلة؟ إن الناس يعيشون في ما بينهم بشكل طبيعي، كما لو كانوا من لون واحد، إذن ليس هناك طائفية عميقة أو متجذرة تمنع المسلمين من أن يلتقوا مع المسيحيين، فعلى المستوى الطائفي وعلى مستوى الواقع السياسي اتفق المسيحيون والمسلمون على هذا التنويع. وألاحظ أنه بين وقت وآخر،كان المسلمون يتحدثون عن حقوقهم المهدورة، وعن حرمانهم وامتيازات للمسيحيين، كان المسيحيون يسمونها ضمانات، واليوم انقلب الوضع، وأصبح المسيحيون يتحدثون عن حقوقهم المهدورة، ولكن لا المسلمون صنعوا الحقوق المهدورة للمسيحيين، ولا المسيحيون صنعوا الحقوق المهدورة للمسلمين، ولكنها اللعبة الدولية وطبيعة التركيبة اللبنانية.

أنا اعتقد أن معزوفة الطائفية التي يتداول بها، هل تلغى من النفوس أم من النصوص إنما هي مسألة تمثل دوامة في الطرح السياسي، وأنا أقول استفتوا الشعب وستجدوا أن الطائفية خرجت من النفوس، ولكن البعض يريد أن يؤكدها من جديد باستغلال النصوص، لأنهم يخوفون المسيحيين والمسلمين بطريقتهم الخاصة. إنني لا أريد أن أتهم أحداً بالاتهامات الاستهلاكية، ولكني أقول المشكلة عندنا هي أننا لسنا واقعيين ولا أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع. ونحن شعب اللحظة ولسنا شعب المستقبل. ونحن بالإضافة إلى ذلك ندرس الأمور من موقع السطح ولا ندرسها من موقع العمق، حنى اليوم لم نفهم أن لبنان لم يصنع ليكون وطناً لبنيه، بل صنع ليكون مختبراً لكل التيارات السياسية في المنطقة، وليكون رئة تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون المحرقة واللبنانيون الحطب من أجل إيجاد الحريق في أكثر من قضية من قضايا المنطقة، والدليل على ذلك هو الحرب اللبنانية التي يعرف الجميع أن هنري كيسنجر خطط لها ونفذها، واستفاد من كل التعقيدات الفلسطينية والعربية والدولية والمحلية من أجل إسقاط القضية الفلسطينية في لبنان، ولولا الانتفاضة لسقطت هذه القضية تماماً. ولذلك نقول في هذه الأيام ليس هناك حرب في المستقبل المنظور في لبنان، لأنه لا مصلحة لأية جهة دولية في حرب لبنانية جديدة حتى لو أرادت بعض المواقع الأقليمية أن تنشئ حرباً، فإنها لا تستطيع ذلك، إذا لم يكن هناك ضوء أخضر دولي ولا سيما أميركي.

لهذا فإنني أتخوف من أنه علينا أن ندرس طبيعة تركيبة الدولة اللبنانية وأتساءل هنا وأقول: لمن يتحدثون عن الخلفيات في بعض المواقع الرئاسية اللبنانية، هل أنتخب رئيس للبنان، منذ كان لبنان، وحتى اليوم بإرادة لبنانية، أو أن الجميع كانوا ينتظرون كلمة السر البريطانية تارة، والفرنسية تارة أخرى، والأميركية تارة ثالثة، ومعها المصرية أو السورية أو ما إلى ذلك؟ الكل ينتظر كلمة السر، وإذا كانت كلمة السر في الرئاسة الأولى، كيف تكون كلمات السر في النيابة والوزراء وفي كل الرئاسات، مع أننا نقول ليس هذا القضاء والقدر، ولكن أيها اللبنانيون تواضعوا وافهموا أنكم تتحركون داخل الساحة التي يحيط بها الاخرون، أذكر أن واحداً من زعماء الجنوب الذي كانت قائمته أربعة عشر نائباً وكان دائرة واحدة ثم قسم إلى دوائر الزهراني والنبطية الخ، قيل له بعد ذلك: كيف هو وضعك بعد هذا التقسيم قال: "أنا في الجنوب "كالكبة" في الصينية مهما قسّمت "الكبة" تبقى في الصينية!

أقول للبنانيين قد تنقسمون طائفياً وحزبياً ومذهبياً ولكن من يملك الصينية؟ فتشوا من يملك الصينية دولياً، ومن خلال قانون الملكية الدولية من يملك الصينية أقليمياً، لأنه ليس هناك أحد أقليمياً يملك الصينية بعيداً عن المالك الدولي لهذه الصينية، هذه هي المسألة، أتركوا الشعب يمارس إنسانيته، عند ذلك تحل مشكلة الطائفية لأن النظام الطائفي مشكلته أنه يثير الحساسيات كلما هدأت وبردت وهذه هي المسألة.

الدور الإيراني في لبنان

س: الدور الإيراني في لبنان بدأ يواجه بانتقادات ولو خافتة من حيث أن الجمهورية الإسلامية في إيران تدعم المقاومة وتبارك كل عملياتها العسكرية التي لا تلقى قبولاً عند أوساط سياسة عليا معروفة فماذا يقول سماحتكم؟

ج: أولاً إن الدور الإيراني لم يضغط سياسياً في أي قرار لبناني، وليس هناك أية مؤثرات إيرانية على المستوى السياسي اللبناني، أما مسألة المقاومة فإنها مسألة لبنانية، لأن المقاومين لبنانيون من مختلف مناطق لبنان، والمقاومة عندما تتحرك فإنها تتحرك من أجل قضية لبنانية تمس لبنان كله وهي قضية الاحتلال الإسرائيلي للبنان، ولا أعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي للبنان هو مسألة إيرانية تستفيد منها إيران، أية فائدة لإيران في مسألة زوال الاحتلال الإسرائيلي للبنان؟ ما هي المسألة التي تتصل بالداخل الإيراني أو بالسياسة الإيرانية؟ بل إن إيران تعاني دولياً من خلال دعمها للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد اقتنع اللبنانيون الذين كانوا يعتبرون أن المقاومة تمثل مشكلة للبنان على المستوى السياسي والاقتصادي أو أنها تمثل حركة عبثية ـ عندما تقدمت المقاومة واستطاعت أن تفرض نفسها، وأن تحصل على أكثر من تأييد هنا وهناك ـ لقد اقتنعوا بأن المقاومة هي التي حررت لبنان، عندما استطاعت أن تسقط العنفوان الإسرائيلي، لأنهم قالوا ولا يزالون يقولون إننا نقدم انتصارنا هدية للشعب اللبناني كله، وأثبتت المقاومة واقعية تفكيرها في الوقت الذي أثبتت فيه لا واقعية تفكير الآخرين، الذين كانوا يعتبرون أن العين لا تقاوم المخرز، وأن إسرائيل هي الدولة التي لا تقهر، وأن الجندي الإسرائيلي هو الجندي الذي لا ينهزم الخ…

لذلك فإن إيران بمساعدتها للمقاومة ساعدت لبنان، وهذا ما يتحدث به كل اللبنانيين سواء من اليمين أو من اليسار، المسيحيين منهم والمسلمين.

أما اليوم فإن السلطة اللبنانية، وليس المقاومون، هي التي أعلنت أن مزارع شبعا لبنانية، وأنها لا تزال محتلة وأنها تدخل واقعياً في القرار 425 بالرغم من أنها تفقد بعض التفاصيل القانونية التي ربما لا مجال لحلها الآن، لأنها قد تنعكس على الموقف السوري في الجولان الذي يطالب بحدود العام 1948 باعتبار أن الدخول في تفاصيل الأرض هنا وهناك قد يربك هذا الطلب كما يقول البعض.

كما أعلن في لبنان كله حتى بالنسبة إلى الذين ينتقدون عمل المقاومة أن هذه المزارع لبنانية، ولكن قالوا من واجب سوريا أن تقدم وثيقة للأمم المتحدة، بأنها لبنانية، إذن القضية تحتاج إلى جانب قانوني، لكنها لبنانية باعتراف الجميع. عندما تكون هناك أرض لبنانية محتلة ويقول بعض اللبنانيين إنا نريد أن نحررها لأننا جربنا إسرائيل عند احتلالها للجنوب فلم تخرج إلا بالمقاومة وكانت لا تريد أن تخرج إلا بشروط ثقيلة، وهذا ما لاحظناه في اتفاق 17 أيار، ونحن نريد أن نحرر أرضنا لا بطريقة المغامرة لأنه لو أردنا المغامرة، لأمكننا أن نحارب إسرائيل في الخط الأزرق الذي أصبحنا على حدوده، وأصبحنا نستطيع بما عندنا من أسلحة وبما عندنا من شباب أن نضرب حيفا، ولكننا نلاحظ الوضع اللبناني ونعتبر أن المقاومة هي حركة في السياسة، وليست مجرد حركة عنترية تضرب كيفما شاءت.

لذلك نحن نريد أن نحرر لبنان، وإيران تقول نحن نساعد اللبنانيين في تحرير أرضهم، عندما يريدون أرضهم، والمفروض على الدولة بكل مواقعها أن تدعم حركة المقاومة، وتقول إن نجاح المقاومة في الضغط على إسرائيل في ما مضى يوحي بنجاح المقاومة، فأين هي إذن السياسة الإيرانية التي تربك الواقع اللبناني؟ مع أن إيران اليوم تدفع بممثليها ليقابلوا المسؤولين اللبنانيين ويتحدثوا معهم بهموم لبنان واستعدادهم لمساعدته.

مقررات قرنة شهوان

س: شكلت مقررات "قرنة شهوان" موضوعاً سياسياً ساخناً واستلزمت مواقفاً وردوداً، مع ملاحظة أن بعض القيادات الإسلامية بدت في حالة الرضى عن هذه المقررات فكيف تنظرون إليها؟

ج: إن فيها بعض الإيجابيات، ولكني أعتقد أن هذه الاجتماعات لن تؤدي إلى نتيجة، لأنها تتصل بالأسلوب الذي جربه اللبنانيون ولم يحقق نتيجة، إن هناك شيئاً اسمه الحساسية اللبنانية التي أشرنا إليها، عندما ينطلق فريق واحد في كل هذه الدوامة التي أحاطت ببيان مجلس المطارنة أو بموقف البطريرك أو بالسجال الذي دار حول هذا الموضوع صواباً أو خطأ، لأني لست في موقع التقييم للموضوع، إنما أنا فلا أرى إمكانية بأنها تنفتح على حوار موضوعي، قلنا أن فيها إيجابيات، ولكن المسألة ليست في ما تشتمل عليه من إيجابيات، الكلام في من الذي أطلقها في وعي فريق آخر، لو كان هذا الاجتماع اجتماعاً مختلطاً إذا صح التعبير، بحسب المصطلحات اللبنانية، وكان تحت مظلة لبنان الهواء الطلق، وتحت مظلة دينية تحمل عنواناً طائفياً بشكل رسمي، لأمكن أن تكون لها واقعية، ولكني لا أتصور أن لها واقعية وهناك بيت لأحد الشعراء العراقيين الذي عاش في لبنان ألا وهو أحمد الصافي النجفي الذي قلب الحكمة التاريخية: "أنظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال"… يقول:

"كثر الخداع اليوم في أقوالنا فانظر إلى من قال لا ما قيلا"

أنا لا أريد أن أطبق البيت على المجتمعين، هنا أو هناك، لكني أقول إن اللبنانيين ينظرون إلى من قال لا إلى ما قيلا… حددوا من قال…

س: سماحة السيد هناك موضوع الإصلاح الإداري، وقصة الإصلاح الإداري في لبنان قصة طويلة ولا تكاد تبدأ حتى تنتهي، وآخر المحاولات تلك التي قامت بها الحكومة الحالية، فلماذا فشل الإصلاح الإداري دائماً في رأيكم وهل ترون فرصة له مع هذه الحكومة؟

ج: النظام الطائفي هو الذي فشَّل الإصلاح الإداري، لأن الواقع اللبناني الجديد يتغذى من القديم،، وهو أنه جعل لكل طائفة ممثلاً، وأعطى هذا الممثل صلاحية أن يصادر طائفة لحساب زعامته، وانطلق من أجل أن يملأ الإدارة بجماعته باسم حقوق طائفته، لينطلق ذاك أيضاً ليملأها بجماعته باسم حقوق طائفته، وفي غياب وجود فراغات لبعض الوظائف، توجد هناك وظائف جديدة من دون أي عمل، ومن دون أي عنوان. وعندما يتحرك الإصلاح الإداري فإن المسألة تتحرك على أساس أن هذا الإصلاح يتجه ضد هذه الطائفة وضد هذا الرمز وذاك، وعند ذلك يخاف الآخرون من تعاظم المشكلة ويبقى القديم على قدمه ويخرج من لا ظهر له ولا امتداد له لا في الساحة المحلية ولا في الساحة الإقليمية.

س: كيف هو الوضع في البيت الشيعي بعد غياب المغفور له العلامة السيد محمد مهدي شمس الدين؟

ج: أنا لا أعتقد أن هناك صراعات وأن هناك مشكلة، بل هناك نوع من الترتيب الإداري للهيئة الناخبة، لأنها تعاظمت كثيراً ولبعض المواقع، إني لا أتصور أنها يمكن أن تخلق مشكلة!

س: متى تتوقعون أن يتم انتخاب خليفة للمغفور له العلامة شمس الدين؟

ج: أنا خارج نطاق الموضوع، ولذلك لم أبحث في الموضوع تفصيلاً، لا في التوقيت ولا في ما وراء التوقيت.

أجرت مجلة"الصياد" اللبنانية مقابلة صحفية مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ، وشملت عناوين مختلفة من أبرزها الشأن اللبناني بتداعياته المختلفة، وخاصة ما يعيق الحوار بين اللبنانيين، حيث رأى سماحته أن الحوار بينهم متحقق، ولكن سكنة الأبراج العاجية من مختلف المواقع هم الذين يعيقون الحوار، وهذا نص المقابلة:


سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، يمثل مرجعية إسلامية كبرى على مستوى الفتوى، وعلى المستوى السياسي أيضاً. يقصده المتدين لأخذ الفتوى الشرعية، ويقصده السياسي لأخذ الفتوى السياسية… منزله كائن إلى جانب كنيسة مار يوسف حارة حريك، وتجاور مسجد الحسنين الذي يصلي فيه سماحة السيد فضل الله، والتي تقرع أجراسها في كثير من الأحيان مع آذان المسجد في تناغم ديني يتناسب مع ذهنية وتفكير سماحة السيد فضل الله، الذي ساهم مساهمة كبرى في السعي لترميم الكنيسة وعودتها إلى ممارسة الشعائر الدينية المسيحية بعد الحرب…

فقهي ولاهوتي ومفكر سياسي في مزيج من الصفات قلَّ أن تجتمع في شخصية واحدة. وهذه الأبعاد جميعاً تمتزج في كلامه وحواراته لتعطيها صفات الغنى والفرادة والعمق، بحيث من الصعب فرزها لاستخراج ما قصده المحاور من السؤال، وما رمى إليه المحاور في الجواب، ولأن الاحاطة بكل ما يختزنه العلامة فضل الله من أفكار وطروحات ورؤى صعب في جلسة واحدة، حسبنا منه هذا الحوار، الذي إن هو إلا غيض من فيض.

س: سماحة العلامة زيارة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سوريا تشكل نقطة التقاء أساسية بين الإسلام والمسيحية، من موقعكم الفقهي والشعبي والسياسي كيف تنظرون إلى هذه الزيارة؟

ج: أتصور أن العلاقات بين الشعوب، وبين مختلف التيارات وفي مقدمتها الأديان، تحتاج إلى مناخ إنساني يلتقي فيه الناس الذين يتنوعون ليطرحوا العناوين الكبيرة التي تمثل مواقع اللقاء، لا سيما في الأجواء الاحتفالية التي تملك عناوين رسمية تندفع فيها هذه الدولة أو تلك في أجواء احتفالية شعبية منفتحة تتحرك في داخلها المشاعر والعواطف بحيث يغيب عن الناس كل ما اختزنوه من بعض التعقيدات التي تثيرها الحساسيات السلبية هنا وهناك. لأن مثل هذا اللقاء الذي لا تبحث فيه مواقع الخلاف بل مواقع اللقاء بطريقة شعورية، لا بد من أن يهدم الكثير من الحواجز النفسية، ويفتح المجال للكثير من الأفكار والطروحات التي تنطلق من أجل إيجاد لقاء هنا وهناك يتمم فيه الحديث عن العناصر المشتركة بين هذا الدين وذاك، أو بين هذا الفكر وذاك.

التقاء المسيحية والإسلام

لذلك فإني أعتقد أن الطروحات التي طرحت في الساحة سواء كانت طروحات انطلقت من شخصيات سياسية، وفي مقدمتها خطاب الرئيس الدكتور بشار الأسد أو من خلال حضرة البابا أو من خلال حضرة المفتي العام للجمهورية العربية السورية وغيرها استطاعت أن تعطي بعض المفردات التي تمثل اهتمامات الجماهير بما يتخطى سوريا إلى العالم العربي كما استطاعت أن تثير بعض القضايا الروحية التي ينفتح فيها الناس على الله الذي يتوحد الناس عنده، بعيداً عمن يريدون أن يختلفوا باسمه، والإسلام والمسيحية يلتقيان على أكثر من اسم من الأسماء المقدسة هنا وهناك وفي مقدمتها موضوع الزيارة وهو النبي يحيى الذي يطلق عليه في المسيحية يوحنا المعمدان الذي يمثل في النص القرآني نبياً من أنبياء الله خاطبه الله "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً وبراً بوالديه…"

ويعترف المسلمون والمسيحيون بشهادته في سبيل رسالته، هذا بالإضافة إلى التقاء المسلمين والمسيحيين على تقديس أكثر من نبي من الأنبياء ويلتقون في الدرجة الأولى مع السيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم عليها السلام وإن كانا يختلفان في مفردات العقيدة بالسيد المسيح ـ بين فكرة المسيحية من حيث قيام الربوبية على أساس فكرة التثليث، وبين فكرة الإسلام التي تقول عنه بأنه رسول الله أتاه الكتاب وجعله نبياً وجعله مباركاً {جعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} كما أن السيدة العذراء عليها السلام هي من السيدات اللواتي تقبلهن الله بقبول الحسن عندما دخل عليها زكريا المحراب ووجد عندها رزقا، قال يا مريم {أنىّ لك هذا قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب} قدسها القرآن وعصمها عن كل ما ألصق بها. حتى أن القرآن الكريم تحدث عن اليهود وقولهم على مريم عندما قالوا بهتاناً وإثماً عظيماً..

هذا بالإضافة إلى التزام المسلمين والمسيحيين بالإنجيل، حتى أن القرآن يقدم نفسه بأنه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، وأن المسلمين من خصائصهم أنهم يؤمنون بالكتاب كله، يعني بكل ما أنزله الله من كتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو القرآن، حتى أن الطرح القرآني في مسألة الحوار بين الإسلام والمسيحية يؤكد هذا المعنى{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ألا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون} وكلمة القرآن أيضاً{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.

وهكذا من خلال الإيمان بالإنجيل والقرآن الذي يصدق الإنجيل كما يصدق التوراة نؤمن بالقيم المشتركة الروحية والأخلاقية والإنسانية، ومن هنا فنحن كنا نقول دائماً للمسيحيين بأن القضية بيننا وبينكم في الواقع المعاش هي القضية التي نلتقي فيها معكم بثمانين بالمئة لأنه يحدثنا عن أخلاقياتنا وعن إنسانياتنا وعن قيمنا، وهي قيم مشتركة بين الإسلام والمسيحية…

أما قضية اللاهوت والتفاصيل القانونية فهي قضايا لا تتحرك على الأرض في حياة العامل والفلاح بالمعنى الفلسفي أو بالمعنى الفكري.

نحو حوار علمي

لذلك فإننا نعتقد أن هذه الزيارة يمكن أن تعطي مناخاً إيجابياً يتنفس فيه الناس روح اللقاء بين الإسلام والمسيحية كدينين كبيرين عظيمين يحكمان العالم بشكل كبير جداً، مما يؤدي إلى حوار علمي في اللاهوت قد يقارب بين الدينين، في ما يختلفان فيه من اجتهادات العلماء هنا وهناك تماماً كما هي الدعوة للحوار والتلاقي بين المسيحية الكاثوليكية والمسيحية الارثوذكسية لأن الحوار هو الذي يختصر الطريق إلى اللقاء بين دين ودين أو بين فكر وفكر، ومن الممكن جداً كما طرحنا سابقاً أنه علينا أن نلتقي في مستوى العالم مع المسيحية على عنوانين كبيرين وهما الإيمان بالله الواحد في مواجهة المادية، والوقوف ضد المستكبرين لمصلحة المستضعفين لأن محمد كان مستضعفاً ولأن عيسى كان مستضعفاً، ولأن اتباعهما غالباً هم ممن يؤمنون بالقيم ويمثلون الاستضعاف في العالم كله، اتباعهما في مستوى القيمة لا في مستوى الشعار فحسب… وإنني أرى إيجابيات كبيرة لا بد من أن نلاحقها ولا بد من أن نستفيد منها، ونحن كنا نتمنى في لبنان أن نعيش هذه الروح حتى مع الاختلاف في المفردات أي أن نعيش مسيحيتنا على مستوى القيمة وإسلامنا على مستوى القيمة، حتى في القضايا السياسية التي نختلف فيها فلا يتحدث المسلمون أن هناك حرماناً لهم من قبل المسيحيين كما كان الحديث سابقاً، أو أن يتحدث المسيحيون أن هناك احباطاً يلاحقهم وسببه المسلمين، أو أن يشكك هذا الفريق أو ذاك الفريق، في وطنية هذا أو ذاك، وفي إيمان هذا أو ذاك بالحرية والاستقلال، مما يتراشق فيه الناس بالكلمات الحادة في المسألة السياسية بما قد يثير الغرائز ولا يحرك العقل.

الوفاق الوطني الحاضر الغائب

س: سماحة العلامة رغم مرور أكثر من عشر سنوات على اتفاق الطائف، وانتهاء الحرب اللبنانية، لا زال الكثيرون يتحدثون عن غياب الوفاق الوطني، وبالتالي عن استشراء الحالة الطائفية في البلاد. فما هي نظرتكم إلى الوفاق الوطني وكيف الوصول إلى وأد الحالة الطائفية في لبنان؟

ج: إنني في الشق الأول من السؤال اختلف مع الذين يقولون أن الوفاق الوطني لم يحصل في لبنان لأن الذي يمثل الوطن هو الشعب، وعندما ندرس الشعب اللبناني، العامل والفلاح والتاجر والمثقف والرياضي وما إلى ذلك، فإننا نجد وفاقاً وطنياً لبنانياً يتحرك في كل ما يعيشه اللبنانيون، دلني على أية مشكلة واقعية ميدانية تأخذ عنوان المسلم والمسيحي؟ أين هي المشاكل التي قد تحدث بين التجار المسلمين والتجار المسيحيين؟ أو بين العمال المسلمين والعمال المسيحيين؟ أو ما إلى ذلك، فهي نفسها التي تحدث بين المسلمين أنفسهم والمسيحيين أنفسهم.

س: وهل هذا يعني أن الوفاق حاصل في البيوت وغائب في القصور؟

ج: هناك وفاق وطني حقيقي، ونلاحظ أن المسيحيين والمسلمين معاً يعانون من المشكلة الاقتصادية التي قد تصل إلى مستوى الكارثة. إن المسلمين والمسيحيين يعانون معاً من فقدان المشاريع الإنمائية في مختلف المناطق، بينما الوفاق الوطني على مستوى الشعب موجود، ففي المواقع الرياضية مثلاً لا تجد هناك فريقاً رياضياً لا يختزن في ذاته المسلمين والمسيحيين، وهكذا في المواقع الكشفية وفي المواقع الثقافية والصحافية، أية صحيفة تمثل المسيحيين مئة بالمئة أو المسلمين مئة بالمئة؟ كما أن هناك شكلاً من أشكال الوفاق الوطني في المعنى الرسمي بقطع النظر عما يفسر من خلفيات، فالمجلس النيابي الذي يمثل الشعب بالطريقة السياسية للديمقراطية يلتقي فيه المسيحيون والمسلمون، ومجلس الوزراء كذلك، وهكذا نجد أيضاً في المواقع العليا موقعاً متقدماً للمسيحيين هو موقع رئاسة الجمهورية وموقعين للمسلمين في رئاسة الوزراء وفي رئاسة المجلس النيابي. لذلك عندما ندرس مسألة الوفاق الوطني في المعنى الذي يمثل وحدة الوطن في الجانب الميداني، فإننا لا نجد انفصالاً بين موقع وموقع، ولذلك فإنه وعلى المستوى الذي يفكر فيه الناس العاديون بالانفصال عن الناس الآخرين، ليس هناك شيء من هذا القبيل في لبنان، كما هو موجود في البوسنة والهرسك بين الصرب والمسلمين والكروات…

هناك عقدة في لبنان، تطرح في أن الوفاق الوطني لم يحصل لأن هناك شخصية سياسية لا تملك الحرية في العمل السياسي لأنها موجودة في السجن، وأن هناك شخصية سياسية موجودة في المنفى…

أنا أتساءل مع كل الاحترام لكل الشخصيات، ومن دون أن أدخل في عملية التقويم من هذه الناحية، هل يتوقف الشعب كله وتتوقف مسيرة الوفاق الوطني على ما يتصل بشخصيتين مع كل التقدير لدور هذا ودور ذاك بقطع النظر عن الصواب والخطأ في المسألة؟ هل يجوز أن يجمد الوفاق الوطني في هذه الدائرة؟

هذا شيء غير معقول إلا في لبنان، ولو عرضته على العالم كله لرأيت أن العالم قد يسخر منا، في أننا نجمد المصلحة الوطنية العليا في لقاء اللبنانيين مع بعضهم، لأن هناك تعقيدات قضائية، أو سياسية قد تكون أوهاماً هذا أمر غير معقول أبداً.

هناك حديث آخر في أن اللبنانيين يتحدثون عن الحريات، وعن بعض المفردات التي تسيء إلى الحرية من خلال اعتقال شخص هنا، وشخص هناك من دون مذكرة، أو من خلال إعطاء الحرية لفريق وعدم إعطاء الحرية لفريق آخر، أو من خلال الوجود السوري أو ما أشبه ذلك… هذه قضايا لبنانية تفصيلية قد تحصل في أي بلد، ولا بد من أن توضع صيغة للحوار حولها، ومن الطبيعي أن بلداً يتحرك تاريخه بالحساسية التي لا تختزن عقلاً بل تنطلق من خلال الغريزة، لا يمكن لك أن تثير القضايا في الهواء الطلق، لا لأننا نمنع الناس من أن يتحدثوا لكن الصراخ لن يعطي حلاً لأي مشكلة بل يعقدها. كما أن الفوضى في خطاب ينطلق في مهرجان هنا وخطاب ينطلق في مهرجان هناك، لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية، عندما تكون هناك قضايا تحركت في خلفياتها وجذورها، عبر خطوط دولية أو خطوط إقليمية أو فوضى محلية لا تزال تفرض نفسها على البلد، فإننا لا نستطيع أن نعالج كل هذه الأمور وسط الصيحات والصراخات.

قد نحتاج في بعض الحالات إلى أن نصرخ لينتبه الآخرون إلى أن هناك مشكلة كما يصرخ الطفل عندما يجوع لينبه أمه إلى حاجته إلى الرضاعة أو إلى الغذاء، ولكن لا أن يكون الصراخ هو العنوان الكبير لحركاتنا السياسية خصوصاً وأننا نلاحظ أن الطروحات في الغالب تأخذ عنواناً وطنياً تتحرك من مواقع طائفية، من دون أن نوصم هذه المواقع بالتطيف السياسي، ولكن الحساسيات اللبنانية تحاول أن تجتذب الاتهامات بالطائفية ولو من خلال آلاف الكيلو مترات! عندما ندرس الوجود السوري، ولا نريد الدخول في التفاصيل، نعرف أن هناك وضعاً دولياً ما بالإضافة إلى الوضع الإقليمي الذي يشمل العالم العربي على الأقل في هذه المرحلة، وما يوجد من انقسام اللبنانيين حوله، فهو لا يعالج بخطابات سلبية أو متحمسة يعني الإيجابية المتحمسة، أو بحمل الفؤوس والسكاكين والعصي، إنما يعالج بالعقل البارد في المواقع التي يمكن أن تحل بعض مشكلاته أو تعالج بعضها، حتى قضايا الحريات التي يحاول البعض أن يربطها بالوجود السوري، أو بالوضع الأمني وغيره من هذه الأمور الميدانية، عندما يقال نريد الحريات، من الذي يعالج هذه القضية وكيف؟ هل يمكن أن تعالج بعض القضايا التي تتصل بالقانون أو بحركية القضاء واستقلاليته، أو بالاتفاق بين دولة ودولة بالخلفيات.

بهذه الطريقة المهرجانية؟ كان ينطلق مئات الآلالف هنا ويقابلهم مئات الآلاف من هناك؟ هكذا لا تحل المشاكل… لذلك أنا أتصور أن هناك وفاقاُ وطنياً لا يريد البعض له أن يعيش، كما أن هناك عملاً في الأبراج العاجية الدينية السياسية ـ ولا أتحدث عن فريق معين ـ يؤلمها أن يتفق الشعب، ولا تريد للناس أن ترتاح من كل هذا التعب الاقتصادي والأمني الذي يلف حاضرهم ومستقبلهم، لذلك أعتقد أنه علينا أن نرجع إلى الحكمة المأثورة "إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب".

الأبراج العاجية:

ونحن نعرف أن الذهب عندما تملكه فإنك تبحث عن كيفيات تحريكه بالتأمل والتخطيط والحديث الهامس الذي قد يكون من قبيل ما يقال التفكير بصوت مسموع، لا يصرخ كثيراً ولكنه يفكر كثيراً. لذلك فأنني أعتقد بأن مسألة الوفاق الوطني موجودة، ونقول للكبار الذين يجلسون في الأبراج العاجية:"لقد وفيتم قسطكم للعلى" لقد اتعبتمونا كثيراً، أعطونا شيئاً من الراحة، لأن لبنان المعاصر قد عاش الكثير فلا تزيدوا معاناته.

س: وماذا تقولون عن الطائفية المشتركة اليوم؟

ج: أما قضية حل الطائفية السياسية فدعني أدخل في تحليل نفسي فلسفي لهذه المسألة، أنا أقول للقمة أن ترتفع إلى القاعدة، لأن القاعدة تملك قمة الواقع، والقمة تملك قمة التمنيات، إنني أتحدث الآن عن المناطق المختلفة في لبنان والتي هي الساحة التي يمكن للطائفية أن تطل فيها برأسها لتخلق مشكلة هنا وهناك. وإنني لا أجد مشاكل حقيقية بين الناس في المناطق المختلطة، أنا من منطقة بنت جبيل وهناك أكثر من قرية مسيحية، هناك عين أبل ورميش ودبل والقوزح الخ… لم ينقل لي في التاريخ الذي سبق ولادتي، ولم أشهد في الواقع أية مشكلة بين المسيحيين والمسلمين، فالمسلمون يشاركون المسيحيين تجارياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، والمسيحيون كذلك، حتى أنني كنت أرى أن بعض المسيحيين من عين أبل أو رميش يأتون للمرحوم الوالد، وكان من العلماء الكبار هناك، ليتحاكموا عنده في ما يختلفون فيه بينهم، وكنت أجد الشعراء والأدباء من المسيحيين يأتون في مناسبات المسلمين ويلقون نتاجهم الأدبي والعكس صحيح.

وفي المسألة السياسية لم يكن هناك نائب مسيحي،متفق عليه، وهكذا نائب مسلم، حيث كان المسيحيون يختلفون تماماً كما يختلف المسلمون أيضاً في اختيار هذا المرشح، أو ذاك المرشح، وكذلك في منطقة مرجعيون وهكذا في مناطق بعلبك، وفي العام 1920 حصلت مشكلة في بنت جبيل، بين المسيحيين والمسلمين وكان سببها فرنسا التي أعطت للمسلمين سلاحاً وللمسيحيين سلاحاً وخوّفت هؤلاء من أولئك وحدثت بعض المشاكل، ولكنها طويت فوراً بالمحبة. هناك في منطقة بنت جبيل مسلمون ومسيحيون كما في منطقة الشمال، فما هي المشكلة؟ إن الناس يعيشون في ما بينهم بشكل طبيعي، كما لو كانوا من لون واحد، إذن ليس هناك طائفية عميقة أو متجذرة تمنع المسلمين من أن يلتقوا مع المسيحيين، فعلى المستوى الطائفي وعلى مستوى الواقع السياسي اتفق المسيحيون والمسلمون على هذا التنويع. وألاحظ أنه بين وقت وآخر،كان المسلمون يتحدثون عن حقوقهم المهدورة، وعن حرمانهم وامتيازات للمسيحيين، كان المسيحيون يسمونها ضمانات، واليوم انقلب الوضع، وأصبح المسيحيون يتحدثون عن حقوقهم المهدورة، ولكن لا المسلمون صنعوا الحقوق المهدورة للمسيحيين، ولا المسيحيون صنعوا الحقوق المهدورة للمسلمين، ولكنها اللعبة الدولية وطبيعة التركيبة اللبنانية.

أنا اعتقد أن معزوفة الطائفية التي يتداول بها، هل تلغى من النفوس أم من النصوص إنما هي مسألة تمثل دوامة في الطرح السياسي، وأنا أقول استفتوا الشعب وستجدوا أن الطائفية خرجت من النفوس، ولكن البعض يريد أن يؤكدها من جديد باستغلال النصوص، لأنهم يخوفون المسيحيين والمسلمين بطريقتهم الخاصة. إنني لا أريد أن أتهم أحداً بالاتهامات الاستهلاكية، ولكني أقول المشكلة عندنا هي أننا لسنا واقعيين ولا أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع. ونحن شعب اللحظة ولسنا شعب المستقبل. ونحن بالإضافة إلى ذلك ندرس الأمور من موقع السطح ولا ندرسها من موقع العمق، حنى اليوم لم نفهم أن لبنان لم يصنع ليكون وطناً لبنيه، بل صنع ليكون مختبراً لكل التيارات السياسية في المنطقة، وليكون رئة تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون المحرقة واللبنانيون الحطب من أجل إيجاد الحريق في أكثر من قضية من قضايا المنطقة، والدليل على ذلك هو الحرب اللبنانية التي يعرف الجميع أن هنري كيسنجر خطط لها ونفذها، واستفاد من كل التعقيدات الفلسطينية والعربية والدولية والمحلية من أجل إسقاط القضية الفلسطينية في لبنان، ولولا الانتفاضة لسقطت هذه القضية تماماً. ولذلك نقول في هذه الأيام ليس هناك حرب في المستقبل المنظور في لبنان، لأنه لا مصلحة لأية جهة دولية في حرب لبنانية جديدة حتى لو أرادت بعض المواقع الأقليمية أن تنشئ حرباً، فإنها لا تستطيع ذلك، إذا لم يكن هناك ضوء أخضر دولي ولا سيما أميركي.

لهذا فإنني أتخوف من أنه علينا أن ندرس طبيعة تركيبة الدولة اللبنانية وأتساءل هنا وأقول: لمن يتحدثون عن الخلفيات في بعض المواقع الرئاسية اللبنانية، هل أنتخب رئيس للبنان، منذ كان لبنان، وحتى اليوم بإرادة لبنانية، أو أن الجميع كانوا ينتظرون كلمة السر البريطانية تارة، والفرنسية تارة أخرى، والأميركية تارة ثالثة، ومعها المصرية أو السورية أو ما إلى ذلك؟ الكل ينتظر كلمة السر، وإذا كانت كلمة السر في الرئاسة الأولى، كيف تكون كلمات السر في النيابة والوزراء وفي كل الرئاسات، مع أننا نقول ليس هذا القضاء والقدر، ولكن أيها اللبنانيون تواضعوا وافهموا أنكم تتحركون داخل الساحة التي يحيط بها الاخرون، أذكر أن واحداً من زعماء الجنوب الذي كانت قائمته أربعة عشر نائباً وكان دائرة واحدة ثم قسم إلى دوائر الزهراني والنبطية الخ، قيل له بعد ذلك: كيف هو وضعك بعد هذا التقسيم قال: "أنا في الجنوب "كالكبة" في الصينية مهما قسّمت "الكبة" تبقى في الصينية!

أقول للبنانيين قد تنقسمون طائفياً وحزبياً ومذهبياً ولكن من يملك الصينية؟ فتشوا من يملك الصينية دولياً، ومن خلال قانون الملكية الدولية من يملك الصينية أقليمياً، لأنه ليس هناك أحد أقليمياً يملك الصينية بعيداً عن المالك الدولي لهذه الصينية، هذه هي المسألة، أتركوا الشعب يمارس إنسانيته، عند ذلك تحل مشكلة الطائفية لأن النظام الطائفي مشكلته أنه يثير الحساسيات كلما هدأت وبردت وهذه هي المسألة.

الدور الإيراني في لبنان

س: الدور الإيراني في لبنان بدأ يواجه بانتقادات ولو خافتة من حيث أن الجمهورية الإسلامية في إيران تدعم المقاومة وتبارك كل عملياتها العسكرية التي لا تلقى قبولاً عند أوساط سياسة عليا معروفة فماذا يقول سماحتكم؟

ج: أولاً إن الدور الإيراني لم يضغط سياسياً في أي قرار لبناني، وليس هناك أية مؤثرات إيرانية على المستوى السياسي اللبناني، أما مسألة المقاومة فإنها مسألة لبنانية، لأن المقاومين لبنانيون من مختلف مناطق لبنان، والمقاومة عندما تتحرك فإنها تتحرك من أجل قضية لبنانية تمس لبنان كله وهي قضية الاحتلال الإسرائيلي للبنان، ولا أعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي للبنان هو مسألة إيرانية تستفيد منها إيران، أية فائدة لإيران في مسألة زوال الاحتلال الإسرائيلي للبنان؟ ما هي المسألة التي تتصل بالداخل الإيراني أو بالسياسة الإيرانية؟ بل إن إيران تعاني دولياً من خلال دعمها للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد اقتنع اللبنانيون الذين كانوا يعتبرون أن المقاومة تمثل مشكلة للبنان على المستوى السياسي والاقتصادي أو أنها تمثل حركة عبثية ـ عندما تقدمت المقاومة واستطاعت أن تفرض نفسها، وأن تحصل على أكثر من تأييد هنا وهناك ـ لقد اقتنعوا بأن المقاومة هي التي حررت لبنان، عندما استطاعت أن تسقط العنفوان الإسرائيلي، لأنهم قالوا ولا يزالون يقولون إننا نقدم انتصارنا هدية للشعب اللبناني كله، وأثبتت المقاومة واقعية تفكيرها في الوقت الذي أثبتت فيه لا واقعية تفكير الآخرين، الذين كانوا يعتبرون أن العين لا تقاوم المخرز، وأن إسرائيل هي الدولة التي لا تقهر، وأن الجندي الإسرائيلي هو الجندي الذي لا ينهزم الخ…

لذلك فإن إيران بمساعدتها للمقاومة ساعدت لبنان، وهذا ما يتحدث به كل اللبنانيين سواء من اليمين أو من اليسار، المسيحيين منهم والمسلمين.

أما اليوم فإن السلطة اللبنانية، وليس المقاومون، هي التي أعلنت أن مزارع شبعا لبنانية، وأنها لا تزال محتلة وأنها تدخل واقعياً في القرار 425 بالرغم من أنها تفقد بعض التفاصيل القانونية التي ربما لا مجال لحلها الآن، لأنها قد تنعكس على الموقف السوري في الجولان الذي يطالب بحدود العام 1948 باعتبار أن الدخول في تفاصيل الأرض هنا وهناك قد يربك هذا الطلب كما يقول البعض.

كما أعلن في لبنان كله حتى بالنسبة إلى الذين ينتقدون عمل المقاومة أن هذه المزارع لبنانية، ولكن قالوا من واجب سوريا أن تقدم وثيقة للأمم المتحدة، بأنها لبنانية، إذن القضية تحتاج إلى جانب قانوني، لكنها لبنانية باعتراف الجميع. عندما تكون هناك أرض لبنانية محتلة ويقول بعض اللبنانيين إنا نريد أن نحررها لأننا جربنا إسرائيل عند احتلالها للجنوب فلم تخرج إلا بالمقاومة وكانت لا تريد أن تخرج إلا بشروط ثقيلة، وهذا ما لاحظناه في اتفاق 17 أيار، ونحن نريد أن نحرر أرضنا لا بطريقة المغامرة لأنه لو أردنا المغامرة، لأمكننا أن نحارب إسرائيل في الخط الأزرق الذي أصبحنا على حدوده، وأصبحنا نستطيع بما عندنا من أسلحة وبما عندنا من شباب أن نضرب حيفا، ولكننا نلاحظ الوضع اللبناني ونعتبر أن المقاومة هي حركة في السياسة، وليست مجرد حركة عنترية تضرب كيفما شاءت.

لذلك نحن نريد أن نحرر لبنان، وإيران تقول نحن نساعد اللبنانيين في تحرير أرضهم، عندما يريدون أرضهم، والمفروض على الدولة بكل مواقعها أن تدعم حركة المقاومة، وتقول إن نجاح المقاومة في الضغط على إسرائيل في ما مضى يوحي بنجاح المقاومة، فأين هي إذن السياسة الإيرانية التي تربك الواقع اللبناني؟ مع أن إيران اليوم تدفع بممثليها ليقابلوا المسؤولين اللبنانيين ويتحدثوا معهم بهموم لبنان واستعدادهم لمساعدته.

مقررات قرنة شهوان

س: شكلت مقررات "قرنة شهوان" موضوعاً سياسياً ساخناً واستلزمت مواقفاً وردوداً، مع ملاحظة أن بعض القيادات الإسلامية بدت في حالة الرضى عن هذه المقررات فكيف تنظرون إليها؟

ج: إن فيها بعض الإيجابيات، ولكني أعتقد أن هذه الاجتماعات لن تؤدي إلى نتيجة، لأنها تتصل بالأسلوب الذي جربه اللبنانيون ولم يحقق نتيجة، إن هناك شيئاً اسمه الحساسية اللبنانية التي أشرنا إليها، عندما ينطلق فريق واحد في كل هذه الدوامة التي أحاطت ببيان مجلس المطارنة أو بموقف البطريرك أو بالسجال الذي دار حول هذا الموضوع صواباً أو خطأ، لأني لست في موقع التقييم للموضوع، إنما أنا فلا أرى إمكانية بأنها تنفتح على حوار موضوعي، قلنا أن فيها إيجابيات، ولكن المسألة ليست في ما تشتمل عليه من إيجابيات، الكلام في من الذي أطلقها في وعي فريق آخر، لو كان هذا الاجتماع اجتماعاً مختلطاً إذا صح التعبير، بحسب المصطلحات اللبنانية، وكان تحت مظلة لبنان الهواء الطلق، وتحت مظلة دينية تحمل عنواناً طائفياً بشكل رسمي، لأمكن أن تكون لها واقعية، ولكني لا أتصور أن لها واقعية وهناك بيت لأحد الشعراء العراقيين الذي عاش في لبنان ألا وهو أحمد الصافي النجفي الذي قلب الحكمة التاريخية: "أنظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال"… يقول:

"كثر الخداع اليوم في أقوالنا فانظر إلى من قال لا ما قيلا"

أنا لا أريد أن أطبق البيت على المجتمعين، هنا أو هناك، لكني أقول إن اللبنانيين ينظرون إلى من قال لا إلى ما قيلا… حددوا من قال…

س: سماحة السيد هناك موضوع الإصلاح الإداري، وقصة الإصلاح الإداري في لبنان قصة طويلة ولا تكاد تبدأ حتى تنتهي، وآخر المحاولات تلك التي قامت بها الحكومة الحالية، فلماذا فشل الإصلاح الإداري دائماً في رأيكم وهل ترون فرصة له مع هذه الحكومة؟

ج: النظام الطائفي هو الذي فشَّل الإصلاح الإداري، لأن الواقع اللبناني الجديد يتغذى من القديم،، وهو أنه جعل لكل طائفة ممثلاً، وأعطى هذا الممثل صلاحية أن يصادر طائفة لحساب زعامته، وانطلق من أجل أن يملأ الإدارة بجماعته باسم حقوق طائفته، لينطلق ذاك أيضاً ليملأها بجماعته باسم حقوق طائفته، وفي غياب وجود فراغات لبعض الوظائف، توجد هناك وظائف جديدة من دون أي عمل، ومن دون أي عنوان. وعندما يتحرك الإصلاح الإداري فإن المسألة تتحرك على أساس أن هذا الإصلاح يتجه ضد هذه الطائفة وضد هذا الرمز وذاك، وعند ذلك يخاف الآخرون من تعاظم المشكلة ويبقى القديم على قدمه ويخرج من لا ظهر له ولا امتداد له لا في الساحة المحلية ولا في الساحة الإقليمية.

س: كيف هو الوضع في البيت الشيعي بعد غياب المغفور له العلامة السيد محمد مهدي شمس الدين؟

ج: أنا لا أعتقد أن هناك صراعات وأن هناك مشكلة، بل هناك نوع من الترتيب الإداري للهيئة الناخبة، لأنها تعاظمت كثيراً ولبعض المواقع، إني لا أتصور أنها يمكن أن تخلق مشكلة!

س: متى تتوقعون أن يتم انتخاب خليفة للمغفور له العلامة شمس الدين؟

ج: أنا خارج نطاق الموضوع، ولذلك لم أبحث في الموضوع تفصيلاً، لا في التوقيت ولا في ما وراء التوقيت.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية