العلاقة بين القرآن وروايات أهل البيت(ع)
فيما يلي، يجيب سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) عن مجموعة من الأسئلة المتعلّقة بالعلاقة بين القرآن وأهل البيت(ع)..
القرآن وأهل البيت(ع)
س: ماذا تقصدون بالارتباط العضويّ بين القرآن الكريم وأهل البيت(ع)؟
ج: إنّ العلاقة بين الكتاب وأهل البيت(ع) ليست علاقة مقارنةٍ بين موقعٍ وموقع، لينفرد كلّ واحدٍ منهما بذاتيّاته في دوره وحركيته، بل هي علاقة ارتباطٍ عضويّ ينفتح فيه أحدهما على الآخر، لينطلق أهل البيت(ع) في عملية تفسير وتوضيح وتطبيق للقرآن، وتحريك لمفاهيمه في الواقع الإنساني في الحياة، من خلال الوعي الذي عاشوه في معانيه، وانفتحوا فيه على آياته، في خطّ العلم النبوي الذي علّمه رسول الله(ص) للإمام علي(ع) الّذي قال: "علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم، يُفتح من كلّ باب ألف باب" .
وقد جاء في حديث سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعتُ أمير المؤمنين(ع) يقول: "ما نزلت على رسول الله(ص) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله لي أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيتُ آيةً من كتاب الله، ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا. وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمرٍ ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعةٍ أو معصيةٍ، إلا علّمنيه وحفظته، فلم أنس حرفاً واحداً. ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمةً ونوراً، فلم أنس شيئاً، ولم يفتني شيء لم أكتبه" .
س: قد يكون هذا التوهّم الّذي عليه البعض، والذي يرى أنّ منهجكم التفسيري لا يهتمّ بروايات أهل البيت(ع)، ناشئاً من اعتباركم أنّ القرآن مقدّم على الرّوايات، وتأكيدكم ذلك في المنهج؟
ج: إنّنا نؤمن بأنّ القرآن الكريم يمثِّل المصدر المعصوم الأوّل للتصوّر الإسلامي الصّافي في كلّ مجالات الحياة التشريعيّة والفكريّة والعمليّة، وهو الميزان الفصل لكلّ ما يروى من أحاديث النبيّ(ص) والأئمّة(ع).
وهذا ما تؤكّده روايات أهل البيت(ع)، فقد روي عن رسول الله(ص) في ما جاء عن السكوني عن أبي عبد الله الصّادق(ع) قال: "قال علي(ع): إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه" . وفي رواية أخرى: "كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف" . وفي رواية ثالثة: "إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله(ص)، وإلا فالّذي جاءكم به أولى به" .
وفي رواية رابعة عن سدير قال: كان أبو جعفر الباقر(ع)، وأبو عبد الله الصّادق(ع) يقولان: "لا تصدق علمنا إلا بما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه" . ولست أدري كيف فهم هذا المستشكل من ذلك، أنّ المنهج لا يعتمد على روايات أهل البيت(ع)!
بين الكتاب والسنّة
س: قد تكون تلك الشّبهة منطلقةً من منهج تفسيري فقهي لديكم في التّعامل مع النصوص القرآنيّة العامّة، يتلخّص في أنّ الآيات هي التي تخصِّص الروايات في بعض الأحيان، وليس العكس. ربما يكون الفهم الخاطئ لهذه المفردة، وعدم استيعاب الآخر لأبعادها، هو الذي يخلق عنده ذلك التوهّم؟
ج: إننا في ضوء روايات العرض الّتي ذكرتها قبل قليل، نقف على القاعدة الفكريّة الّتي تشكّل معياراً للحكم على كلّ الأحاديث المشتملة على بعض المفاهيم والأحكام الّتي تتنافى مع روح القرآن في خطوطه العامّة، بحيث تكون العناوين القرآنيّة في ظواهرها المفهوميّة، هي الأساس في قبول مضمون هذا الحديث أو ذاك أو رفضه.
فمثلاً، إذا قرأنا قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، نجد أنّ الآية تمثِّل قاعدةً عامّة تحكم موارد العلاقة الزوجيّة وحالاتها، ففي كلّ حالةٍ لا يكون فيها الزّواج إمساكاً بمعروف ـ كما لو امتنع الزّوج عن النفقة، أو كان يسيء معاملة الزّوجة بالضّرب المبرح، بحيث تكره عندئذٍ البقاء معه ـ فلا بدّ من أن يطلّقها أو يجبره الحاكم الشّرعيّ على ذلك، إذا أصرّ على عدم الإمساك بالمعروف ورفض الطّلاق. لماذا؟ لأنّ هذه الآية القرآنية تمثِّل قاعدةً عامة، تبيِّن أنّ العلاقة الزوجية محكومة بهذين العنوانين: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، بحيث يدور الأمر بينهما، فإذا انتفى الإمساك بالمعروف، فلا بدّ من التسريح بالإحسان، ولا ثالث لهما، ولا سيّما إذا ضممنا آية {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
من هذا المنطلق، فإننا لا بدّ من أن نتحفّظ عن الأحاديث أو الفتاوى التي تتنافى مع هذين الخطين في علاقة الزوج بزوجته، كما في حقّ الرجل في منع زوجته من الخروج من البيت مطلقاً، من خلال مزاجه الذاتي، بلحاظ العنوان الأولي، أو منعها حقها في الجنس، كما حال الرواية الواردة عن الإمام الصادق(ع)، عندما سأله أبو الصباح الكناني عن "امرأةٍ غابَ عنها زوجها أربع سنين، ولم يُنفق عليها، ولم تدرِ أحيٌّ هو أم ميّت، أيُجبرُ وليّه على أن يطلّقها؟ قال: نعم، وإن لم يكن له وليّ، يطلّقها السّلطان. قلت: فإن قال الولي: أنا أُنفق عليها. قال: فلا يُجبر على طلاقها. قلت: أرأيت إن قالت، أنا أريد مثل ما تريد النساء، ولا أصبر ولا أقعد كما أنا. قال: ليس لها ذلك، ولا كرامة إذا أنفق عليها .
ونحن حينما نعتبر أنّ القرآن هو الأساس في مثل هذه الحالات، فلا بدّ من اعتبار أنّ القرآن هو الذي يحكم الروايات وليس العكس.
وإذا قرأنا قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ، فإننا لا بدّ من أن نثير التساؤل حول الأحاديث والفتاوى التي قد تصل إلى مستوى شبيه بإلغاء حقّ الزوجة في الجنس، ليكون ذلك حقّاً للرّجل وحده، بحيث لا تحصل المرأة منه إلا على شيء ضئيل جداً. وهكذا الحال في آيات عديدة أخرى.
س: رغم أنّ منهجكم التّفسيريّ يجعل الرّواية ركناً من أركان المنهج، بيد أنّنا نرى في بعض الأحيان أنّكم لا تذكرون الرّوايات رغم كثافتها في الآية المباركة، كما هو الحال ـ مثلاً ـ في تفسيركم لآخر آية من سورة الرّعد: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[الرّعد: 43]، وذكر الرّوايات مهمّ هنا، ولو كانت من باب الجري، فكيف لو احتملنا أنها تفسيرية كما هو الحال في آية سورة الرّعد؟
ج: لقد تعرّضنا للرّوايات في الطبعة الثانية من التفسير. أمّا الآية الّتي ذكرتموها، فإنّ الروايات الواردة في تفسيرها بالإمام عليّ(ع)، لا تتناسب مع سياق الآية بأسلوب الجري، لأنّ الآية تتّصل بالمرحلة الّتي نزلت فيها، لتأكيد رسالة النبيّ(ص) بشهادة الله، بما تمثّله من اقتناع النبيّ برسالته، وبشهادة الّذي عنده علم الكتاب، وهم أهل الكتاب الّذين يملكون علمه ـ حسب اعتقاد المشركين ـ ولم يكن الإمام(ع) معترفاً به لدى المشركين، ولذلك لا يمكن الوصول إلى احتمال أنها تفسيريّة، هذا مع العلم أنّ ثقتهم بالنبي(ص) أكثر من ثقتهم بعلي(ع). أما قوله: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} ، فتشمل الأئمة وكل من كان من أهل الذكر، باعتبار أنها واردة في مقام بيان وسيلة المعرفة للحقائق الإسلاميّة، وإذا كانت تختصّ ببعض الموجودين في زمن الدعوة، فإنها تمتدّ إلى ما بعدها ولو من باب الإيحاء.
المجمل والمفصّل والمقيّد
س: تؤكّدون دائماً في منهجكم التفسيريّ عدم الخوض في تفصيل ما أجمله القرآن. لماذا؟
ج: لقد كانت الملاحظة منطلقةً من فقدان التحديد المادي للسماوات السبع في غياب تفصيل ذلك، بالمستوى الّذي يمكن للإنسان إدراكه حسيّاً، بحيث يشير إليه في حركة المعرفة، كما هو الحال في معرفتنا بالقمر أو بالمرّيخ وغيرهما مما اكتشفه الإنسان، حيث يوحي القرآن بأنها في السماء الدّنيا من خلال قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ، ولا ينافي كلامنا السعي إلى اكتشاف الآفاق، لأنّ حديثنا إجمال ما أجمله القرآن في نطاق معرفتنا الحاليّة، وليس منعاً للبحث في ما يمكن الوصول به إلى نتيجة حاسمة.
س: تتأكّد معرفة المجمل في القضايا الغيبيّة، حينما تكون هناك روايات واردة عن النبي(ص) والأئمة(ع) بصورة مكثّفة حول ذلك الموضوع. لماذا لا نرجع إلى أمثال هذه الروايات لمعرفة ما أجمله القرآن، كما نرجع إليها في معرفة ما أجمله على الصعيد الفقهي؟
ج: إننا نؤكّد الرجوع إلى الروايات الواردة عن النبي(ص) والأئمة(ع) في تفصيل الآيات المجملة، ولا سيما الغيبية، ولكن شرط توثيق تلك الرّوايات بالمستوى الذي تقترب فيه من وثاقة النصّ القرآني، لأنّ التصرّف بالقرآن تفصيلاً وتفسيراً بالروايات، يختلف عن الروايات الواردة في الأحكام، ولا سيّما إذا لاحظنا كثرة الوضع في الأحاديث من قِبَل أبي الخطاب وأصحابه وغيرهم، الأمر الذي يفرض علينا التدقيق في الأحاديث الواردة في التفسير أو غيره مما يتّصل بالعقائد. وقد حاولنا في الطبعة الجديدة أن نتعرّض لبعض هذه الرّوايات في عمليّة دراسة أو تأهيل.
إننا نحثّ على الاهتمام بالرّوايات الواردة عن الأئمّة(ع) في التفسير، ولكن لا بدّ من توثيقها بشكل مؤكّد مختلف عن الرّوايات الأخرى، لأهميّة القرآن في الثقافة الإسلاميّة. ونحن لا نوافق على تخصيص القرآن أو تقييده بالخبر الواحد إذا لم يحتف بقرائن تقترب به من القطع أو الاطمئنان، ولا سيّما إذا كان الخبر موجَّهاً إلى شخص معيَّن لا إلى الأمّة كلّها، بينما يتّجه الخطاب القرآني إلى النّاس كافّة، لأنه ليس من الطبيعي أن يوجّه التخصيص أو التقييد إلى شخصٍ، ولا سيّما إذا كان ذلك متأخّراً على نزول القرآن بعشرات السنين، ما لم نملك تفسيراً لذلك يتناسب مع طبيعة القرآن وتفسيره.
الروايات وتأسيس العقيدة
س: لماذا هذا الاختلاف في التعامل المنهجي بين الروايات الواردة في مجال الأحكام عن الروايات المفسِّرة في المجالات الأخرى؟ لماذا لا تكتفون بالشّروط المعروفة في حجيّة الظهور؟
ج: السبب هو أنّ تلك الشّروط المعروفة مطروحة في دائرة التنجيز والتعذير، من خلال الآثار الشرعية العملية للمضمون الخبري، وذلك من خلال النظريّة الأصولية العامة التي ترى في حجية الخبر لوناً من ألوان التعبّد الّذي لا معنى له في غير روايات الأحكام، إذ لا بدّ في روايات الأحكام من الأثر العملي الذي يكون هو الملحوظ في معنى التعبّد.
أمّا القضايا المتصلة بتفاصيل العقيدة، وبمفردات الوجود، وبالخصوصيّة التفسيريّة للقرآن، فإنها بحاجة إلى القطع أو ما يقترب منه ويحقّق الاطمئنان، لأنه ليس خطّاً للعمل، بل هو خطّ للقناعة الفكريّة على مستوى الالتزام الدّاخلي بالمفاهيم المتنوّعة التي تحاكم الأشياء المطروحة في الواقع، لئلا يكون الموقف متحرّكاً في إثباتها.
وقد تكون الخطورة في هذه المسائل، أنّ الخلل في المسائل العقيديّة والمفاهيم العامّة، هو في الصّورة التي تقدّمها للإسلام، أكثر مما يؤدّي إليه الخلل في الأحكام الشرعيّة التي تتّصل ببعض جوانب السلوك الفردي والاجتماعي في دائرة خاصّة.
ولعلّ إهمال هذا الجانب هو الذي أوقعنا في فوضى المفاهيم المتنوّعة المتصلة بكثير من قضايا العقيدة في تفاصيلها، وقضايا الكون والحياة، من خلال الأحاديث الكثيرة الّتي لم تخضع لتقويم علميّ في صحّتها وضعفها في قاعدتها العامّة.
ولهذا، نرى ضرورة التأكّد من صحّة الأحاديث المروية عن النبي(ص) وعن أهل البيت(ع)، من حيث السند والمتن، بالطّريقة التي تتجاوز الشّروط المعروفة في حجيّة الأخبار في عمليّة الاستنباط الاجتهاديّ للأحكام الشرعيّة.
الهوامش :
بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 30، ص 672.
الكافي، ج1، ص64.
وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 27، ص 110.
بحار الأنوار، ج 2، ص 242.
وسائل الشيعة، ج 27، ص 111.
بحار الأنوار، ج 2، ص 245.
البقرة: 299.
النساء: 19.
وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 22، ص 158.
البقرة: 228.
النحل: 43.
الصافات: 6.