مع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، أنت في حضرة شخصيّة فذّة، نواتها معرفة حصينة، تضفي عليها المكانتان الدّينيّة والسياسيّة هالةً من الوداعة والمهابة.
ينتبه السيّد إلى ملكاته الذهنيّة والنفسيّة، ويوظّفها آلياً في السجال، حتى إنك تميل في غفلة منك إلى الانحياز إليه، تحت تأثير صوته العميق، وعينيه اللتين تراقبانك في تركيز يبقى، ولو حاد بهما إلى جليسه الآخر حين يسمع سؤالاً مثيراً.
ولا يضير سماحة السيّد أن يسمع منك أبعد الكلام عنه في الاتجاه النّقيض، لولا أنّه في أجوبته الطّويلة المستطردة، والتي تنزع أحياناً نحو تفسيرية أكاديمية، قد تضيّع عليك وعلى السّامع والقارئ الفروقات الأساسيّة الّتي في السؤال، يبدو وكأنّه يزيد إلى منطقه منطق اللّغة وعلم نفس المناظرة. وفي هذا، هو ليس ديمقراطيّاً في الإفساح لحوارٍ متعادل الشروط والظروف.
فالوقت القصير الذي للسؤال بحكم أنه سؤال، تقابله مساحة زمنية لا محدودة لأجوبة أنت لا تستطيع اختراقها، جراء الظروف المشار إليها في الفقرتين الأوليين في هذا الكلام.
دخل علينا السيّد بقامته المعتدلة الطول على سمنة، ومشية كالغيم متعجلة قليلاً إنما هادئة، وعمامة، كأنّه صورة مجسَّمة لهالته، وهي جزء منها في آن.
بلطافة صادقة صافحنا، وجلس إلى كرسيه المحاذية لنافذة يشقّها مستشاره الإعلامي شقاً، وهو تولّى مشكوراً تصويرنا مع العلامة، لنتبيّن لاحقاً تشوّش الصورة، على عكس جلستنا التي طبعها الوضوح والصّراحة.
يبقى أنني ذهبت إلى لقائه باعتباره مرجعية إسلامية بارزة، يمكن أن تناقش في رحابة وغوص بعض أسئلتي، وما يطرح اليوم على الساحة الثقافية من إشكالات في ظلّ عصر بالغ السرعة والتبدّل، غنيّ بالتناقضات.
وهذا نصّ الحوار مع سماحته:
الإسلام والتعدّديّة الدّينيّة
ـ لك، حضرة العلامة، في شرق بيروت صورة مخيفة عند النّاس، على أني أرتاح إليك للوهلة الأولى...
ـ (بابتسام) تغيّرت ملامح الصّورة أخيراً...
ـ لي، تغيّرت ظاهرياً، لكن وبصراحة، واجهتني في الشارع القريب من هنا كنيسة مهجورة ومدمّرة بالقصف أو ربما سواه.. طبعاً مشروعكم جمهوريّة إسلاميّة ولو أن...
ـ (مقاطعاً) تطلّعاتنا لا مشروعنا، فرق بين أن نتطلّع وأن...
ـ (مقاطعاً بابتسام) من جهتي أتمنى أن تظلّ تطلّعات.
ـ لا، هناك فرق، هناك خلل في فهم العنوان الّذي يُطرَح، من المؤسف أنّ كلّ إنسان يحاول أن يفهم العنوان من خلال خلفيّاته النفسيّة من جهة، وبيئته المعقّدة من جهة أخرى، ومن خلال السطحيّة في التّدقيق في المفردات والأجواء الّتي يتحرّك فيها هذا العنوان.
من الطبيعيّ في لبنان أن تطرح جمهورية إسلامية مقابل جمهورية مسيحية، مع أن المسيحية كفعل إيمان لا تختزن مشروع دولة، بل آفاقاً روحيّة قد تكون ضبابية في بعض الحالات، بحيث لا يفهمها حتى الذين يستهلكونها، وقد تكون حركة أخلاقية وعبادية وما إلى ذلك، ما يعني أن أي طرح من أية جهة لأي مشروع دولة، لا يناقض المسيحيّة.
وهكذا نجد أنّ الإسلام، حسبما يفكّر فيه قسم كبير من المسلمين، وحسب التّاريخ الفكريّ لديهم، يختزن مسألة الحكم والشَّريعة... كما أنّ هناك قانوناً إسلاميّاً يطلق عليه اسم الشّريعة، متحرّكاً من خلال اجتهادات فقهاء المسلمين على مرّ العصور، من خلال مصادر الكتاب والسنّة، ويشمل كلّ نواحي الحياة، وتتجدّد مفرداته حسب تجدّد حاجات الحياة ومشاكلها.
ـ أهذا حقيقيّ فعلاً؟
ـ طبعاً، بمعنى أنّه لا يواجه أيّ قضيّة من موقع فراغ. وعلى هذا الأساس، عندما يطرح المسلم الإسلام كدولة أو كمشروع سياسيّ، فإنما يطرح الجانب الفلسفيّ والعباديّ في الإسلام، كما الجانب المدنيّ، وهذا الأخير ليس نقيضاً للمسيحيّة. ونحن نرى كيف تتحرَّك المسيحيَّة أمام المشاريع الّتي تطلق خطَّ المدنيَّة، كما مع المشاريع القانونيَّة في فرنسا أو بريطانيا، أو المشاريع السياسيَّة، كالقوميَّة، والماركسيَّة.. ونحن نلاحظ أنّ هذه المشاريع لا تثير حساسيَّة المسيحيَّة، مع أنّها مضادَّة لها، بينما نراها تتحسَّس من الإسلام...
ـ (مقاطعاً) أسباب ذلك أنَّه...؟
ـ (متابعاً) مع أنّ الإسلام أقرب إلى المسيحيّة من كلّ القواعد الفكريّة للتيّارات الأخرى... لأنّ المسيحيّة دين والإسلام دين، بينما تمثِّل التيارات الأخرى إطلالةً على الفلسفة المادّية، سواء في شكل مباشر، كالماركسيّة، أو غير مباشر، كالتيّارات العلمانيّة الأخرى...
قد تقول إنّ الإسلام حين ينظر إلى المسيحيّين، فإنه ينظر إليهم كأهل ذمّة، وهو الطرح المستهلك في السجال السياسي.
ـ وهل من نظام آخر للتَّعاطي معهم؟
ـ أريد أن أؤكّد أنّ هناك نوعين من إدارة علاقات المسلمين مع غيرهم؛ أوّلاً: علاقة الذمّة، والذمّة مفهوم حضاريّ وليس متخلّفاً، ففي البلد أكثريّة وأقليّة، وقد تضطرّ الأكثريّة، حسب خطّها الفكريّ، أن تحارب فريقاً من النّاس يتّفق والأقليّة... هنا تُعفى الأقليّة من الدخول في حرب لا تؤمن بها، وفي الآن نفسه، تلتزم الأكثرية حماية إنسانيّة الأقليّة وحريتها في الدائرة التي لا تتنافى مع النظام العام، على أساس أن تدفع ضريبة هي بديل من كثير من الفرائض التي تلتزمها الأكثريّة في هذا المجال. لهذا ربما تكون الأقلية في هذا المعنى تنال من الامتيازات أكثر مما تناله الأكثريّة. هذه نقطة.
وهناك الخطّ الثّاني، وهو نوع من العقد الاجتماعيّ، قائم على أن يدخل المسلمون في الدّولة الواحدة أو الدولة المتعدّدة، على أساس التعهّد بالتزامات معيّنة تنسجم والخطوط العامّة للدّولة.. وقد كتبت قبل وقت بحثاً حول هذا الموضوع في مجلّة "المنطلق"، مركّزاً على أسس المصادر الإسلاميّة في هذا المجال.
وأتصوّر أنّ المزيد من الحوار الفكريّ العلميّ البعيد من الغوغائيّة، قد يجعلنا ننفتح على نافذة جديدة، في أنَّ الطرح الإسلاميّ لعلاقة الإسلام بالمسيحيّين، أكثر حضاريّة من الطّرح الموجود في العالم فيما خصّ الأقليّة والأكثريّة.
اللاهوت والفقه والحريّة..
ـ ربما لا يتناقض الإسلام روحيّاً مع المسيحيّة تماماً، ولكن في النظام المدني، ثمة تناقض واحتواء من الإسلام لدين آخر يقوم على الحريّة، فالمسيحيّ تالياً لا يقبل أن يكون ذميّاً..
ـ قلت إنّ هناك نظام تعاقد آخر.
ـ وهو يقوم على الحريّة؟
ـ أريد أن أناقش معك فكرة أنّ المسيحيّة كفكرٍ لاهوتيٍّ تقوم على الحريَّة: ما معنى الحرم في المسيحيّة عندما يتمرّد إنسان على سلطان الكنيسة؟ ثمة أيضاً في نظامها الكنسيّ الرّسميّ، ما يجعلها بعيدة عن فكرة الحريّة في الحضارة الغربيّة، فلست حرّاً في أن تزني، أو أن تمارس حريّتك الشخصيّة في علاقاتك الجنسيّة.
الحريَّة في الأديان، كما في الأنظمة الدّيمقراطيَّة، ليست مطلقةً، ونسبيّتها تنطلق من الفكر الّذي أنت تؤمن به.
ـ حضرة العلامة، هل تشكّ في أنّ تطوّر اللاهوت في المسيحيّة فاق تطوّر الفقه في الإسلام؟ إنّ كاردينالاً في الفاتيكان، وكذلك البابا، يقبل اليوم أنّ حكاية آدم في التّوراة أسطورة رمزيّة عن الخلق، فهل يمكن القول مثل ذلك عن آية في القرآن الكريم؟
ـ أجيب بسؤال: هل مسألة الخلق عند المسيحيّة تمثّل حقيقة دينيّة هي عبارة عن فكرة لا تقبل المناقشة باعتبارها مسلّمة، أم هي نظريّة دينيّة قابلة لأكثر من احتمال؟!
فهل يمكن لكاردينالٍ أو بابا، أن يعتبر أنّ الله يمثّل مجرّد فكرة رمزيّة للقوّة الأبديّة الّتي قد نعبِّر عنها بالمادّة؟
وأنطلق من هذا إلى أنّ الحقائق في المسيحيّة لا يملك البابا أن يناقشها، وإلا خرج عن الدّين.. وكذلك بعض المفكّرين الإسلاميّين، يفكّرون في أنّ آدم ليس بداية الخلق، وأنّ قبله ألف ألف آدم، وثمة من يفسّرون القرآن تفسيراً رمزيّاً، وفي المجال العلميّ، تطرح التّفسيرات للمناقشة، على أساس هل هي اجتهادات صحيحة أو باطلة.
لو درسنا الكلام والفلسفة الإسلاميّين، لوجدناهما يتحرّكان في حريّة علميّة بلا حدود.
ـ كذلك اليوم؟
ـ كذلك اليوم.
ـ ما انعكاس هذا السّجال الحرّ الّذي تشير إليه على الحياة اليومية للناس، على الأشكال الحضارية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ نلاحظ ركوداً في المجتمعات الإسلاميّة على جميع هذه الصّعد..
ـ كما أنَّ مجتمعات مسيحيَّة كثيرة غارقة في الرّكود.
ـ ربما تريد الإشارة إلى الإشكاليَّة الأخلاقيَّة في المجتمعات المسيحيَّة في الغرب... عندما نتحدّث عن مسيحيّة الغرب كنموذجٍ حضَنَ التطوّر؟!
ـ إنّه ليس نموذجاً مسيحيّاً، إنّه نموذج غربيّ مسيحيّ، أخذ من المسيحيّة شكلها وأعطاها بعضاً من وثنيّته، وهذا ما تناقشه الكنيسة الشرقيّة مع الكنيسة الغربيّة، لهذا لا تستطيع القول إنّ الحضارة الأوروبيّة مسيحيّة.
ـ ولكنّ البيئة الّتي نضجت فيها الحضارة العلميّة الأوروبيّة هي بيئة مسيحيّة.
ـ بيئة المسيحيّة تمرّدت على المسيحيّة.
ـ إذاً فالمسيحيّة تحتمل أن تفسح مجالاً للأفكار الأخرى...
ـ لا، لا تحتمل، بل إنَّها ضعفت وفقدت مواقعها في حركة الواقع هناك، تحت تأثير الضَّربات الّتي وجَّهتها إليها العلمانيَّة. ليست المسألة أنَّ المسيحيَّة انفتحت على التطوّر من منطلق الحريَّة، فالحقائق المسيحيَّة الإيمانيَّة تشبه الأسطورة في نظر الحضارة الغربيَّة.. هل تتقبّل الحضارة الماديّة فكرة المعجزة والألوهيّة للسيّد المسيح؟
ـ ليس ضروريّاً أن تتقبّلها الحضارة الماديّة المؤمنة باللّيبراليّة، فهي تترك للمؤمن حرّيّته في الإيمان أو الإلحاد، مثلما تستطيع الكنيسة استيعاب التطوّر العلميّ..
ـ التطوّر العلميّ الّذي يختزن حركة الإنسان في اكتشاف أسرار الكون، ما من تناقضٍ فيه بين الإسلام والمسيحيَّة.
ـ وإذا تناقضت حقائق العلم مع النصّ الدّينيّ في الإسلام؟
ـ نحن الآن في الإسلام نرى أنّ كلّ نصّ له ظهور ينافي الحقيقة العلميّة، لا بدّ من أن يُؤوّل لمصلحة الحقيقة العلميّة.. فنظرية داروين مثلاً مجرد نظرية تتنافى مع التاريخ الديني وظواهره لا مع تفكيره، ورغم ذلك، لا نستطيع القول إنّ الدّين ضدّ العلم، لأنّ الثّغرات الّتي في هذه النظريّة، قد تحمل علامات خطأ النظريّة في المستقبل.
حريّة ترك الدّين!
ـ من إشكالات مسألة الحريَّة في الإسلام، أنّ من يترك دينه إلى دينٍ آخر يستحقّ الموت.. ولكنّه أساساً لم يختر دينه، وحتّى لو اختار، فقد يحقّ له اختيار ثان. كيف يمكن حلّ هذه المسألة؟
ـ طبعاً إنها من المسائل الّتي لا تزال مطروحة في الساحة، على أساس أنّه عندما نعتبر الدّين جزءاً من هويّة الإنسان في نظر الدّولة، فإنّ خروجه عندها يكون أشبه، إلى حدّ ما، بالتمرّد على جنسيّة الدّولة.
ـ ولكنّك طرحت منذ قليل التعدّدية الدينيّة.
ـ نعم.
ـ كيف نوفّق بين فكرة التعدّديّة، إذا كانت هويّة الدّولة هي الإسلام؟
ـ هناك نقطتان؛ فالإسلام، من جهة، يسمح بالتعدّديّة الدّينيّة في المجتمع الواحد، ومن جهة ثانية، هناك ما يتّصل بالتنظيم الداخليّ لكلّ دين، فيحافظ على نفسه، ويتعايش مع الآخر في آن.
ـ وهل يكون هذا الحفاظ عبر القمع؟
ـ ثمة قضايا تشبه تمرّد الإنسان على هويّته أو جنسيّته، وهو ما قد يُعتبر خيانة عظمى في معظم الدّول.. لكن قبل ذلك، هناك نقطة يجب ملاحظتها، وهي أنّ الإسلام يطلب من الإنسان أن يؤمن أو يلحد عن قناعة.. والإسلام يقول للمسلم الّذي لديه شبهات، تعال وخُذ حرّيتك في طرحها أمام جهات علميّة، لأنّك إذا وقفت في موقع الشّكّ فلست بكافر. إنّ الكافر هو الّذي يشكّ، فيكفر من دون أساس لكفره.
ـ ومن يحدِّد الأسس؟ هل تُقبل حججه، أم يتمّ تكفيره في كلّ الأحوال من ضمن الحفاظ على حقائق الدّين؟
ـ لا، من الطبيعيّ أنّه لن يُكفَّر، عندنا حديث عن أئمّة أهل البيت(ع) يقول: "لو أنّ النّاس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا، إنما يكفرون إذا جحدوا".
ـ ومن يترك دينه أليس بجاحد؟
ـ لا، أقول إنَّك إذا أردت أن تترك دينك، فقبل أن تفعل تعال ناقشني، لكنَّك قد لا تكون مستعدّاً للمناقشة، بل تتمرَّد انطلاقاً من حاجات عاطفيَّة أو مزاجيَّة، وفي هذه الحالة، لا يسمح لك الإسلام بأن تتمرَّد.
ـ من يقرّر ما إذا كانت الجهات العلميّة الدّينيّة استطاعت تقديم أجوبة على استفسارات المشكّك، أو لم تستطع؟
ـ المفروض أنّها جهات مؤمنة عالمة تقيّة، وفي العالم كلّه، لا يستطيع القانون أن يحمي نفسه، إنّ كثيراً من النّاس قد يحمّلون بعض النّاس جريمةً لم يرتكبوها، نتيجة قضاء منحرف أو شهود منحرفين أو نظام معيَّن، هذا عندما تحدِّثني عن سوء التَّطبيق هنا أو في العالم.
لا نرفض الدَّولة
ـ وعن مسألة رفض الدَّولة والقوميَّة لصالح الأمّة الإسلاميّة؟
ـ أبداً.. كيف نرفض الدَّولة؟ تارةً قد ترفض الدّولة الّتي لا تنسجم مع خطّك...
ـ هل ترفض الدَّولة أم الحكومات والسياسات؟
ـ (مستغرباً سؤالي المقاطع): أنا لا أرفض الدّولة، لأنّ الإسلام يدعو إلى دولة...
ـ يدعو إلى دولته.
ـ كلّ صاحب فكر يريد أن يؤسّس دولة على خطّ فكره، يرفض من ناحية فكريّة الدولة التي لا تتحرك على خطّ فكره ويعتبرها دولة غير شرعيّة. ولكن هناك فرق بين أن أرفض شرعية الدولة وأن أرفض الدولة كواقع، بمعنى التمرّد على قوانينها ونشر الفوضى.. فحفظ النّظام واجب شرعاً.. ولذا قلت نحن نتعايش مع الباطل ولا نعترف بشرعيّته.
إذاً الإسلام يرفض الخطّ الذي تسير عليه الدولة ويتعايش معها، محاولاً أن يغيّره.
ـ كيف؟
ـ إمّا بطريقة الدّعوة أو الثّورة، تماماً كما هي كلّ الأنظمة في العالم...
ـ إذاً أنتم تعملون من أجل دولتكم؟
ـ أعمل كأيّ إنسان يعمل من أجل أن يحرّك فكره، تماماً كما تعمل أنت اللّيبراليّ وإن كنت مسيحيّاً، أو أنت الماركسي المسيحي من أجل الماركسيّة.. إنّ هذه ليست فزّاعة لتثير السّؤال بهذه الطّريقة، كما لو كانت لقطةً تريد أن تثير بها أعصاب القرّاء، نحن نحترم أنفسنا، ولذا نعمل في سبيل أن نحوّل فكرنا إلى واقع، ولكن بالطّرق الحضاريّة.
ـ سيّدنا، غدا العالم قرية واحدة، وتالياً، فالكلام على تجسيد فكر دينيّ في دولة، هو كلام مفزع حقّاً..
ـ نحن ندعو إلى أسلمة العالم.
إنّك لا تأخذ الموضوع على محمل الجدّ، ولكنّ الإنسان الّذي يفكّر في المستقبل، وأن السيّد المسيح كان مستضعفاً واستطاع أن ينشر المسيحيّة في العالم بعد ألفي سنة.. ومحمد كان مستضعفاً واستطاع أن ينشر الإسلام في ما يقارب ربع العالم.. إنّ مسألة الضّعف والقوّة ليست خالدة، الضّعيف قد يصير قويّاً إذا عرف كيف ينمّي عناصر قوّته وينتصر على عناصر ضعفه، والقويّ قد يصير ضعيفاً عندما يستسلم لعناصر الضّعف وينسى عناصر القوّة.
لذلك، أنت تحدّثني من خلال الهزيمة الفكريّة المنبهرة بمظاهر الواقع.. إنّك تحدّثني عن الحاضر وأنا أحدّثك عن المستقبل.
ـ ومنطلقات النّهوض؟ ألا نتوافق على أنّ الحرّيّة في البحث الفقهيّ والعلميّ والاجتماعيّ والثقافيّ والصّحافيّ هي الأساس لأيّ نهوض؟
ـ لو اطّلعت على حركة الإسلام الفكريّ في الفقه، لرأيت أنّ هناك حريّة فقهيّة لا تقف عند حدّ.
ـ هل تستطيع أن تدلّني على كتب فقهيّة اليوم وفقهاء جدّدوا؟
ـ اِقرأ كلّ الكتب الفقهيّة، ونحن اليوم نلتزم ربما أفكاراً لم يقل بها الأقدمون.
هل هناك فرض للدّين؟
ـ يرى مفكّرون أنّ ما من دينٍ في العالم اليوم غير الإسلام.. ففي المفهوم الدّاخليّ للدّين، يمارس المسلم علاقته بربّه من خلال الجماعة والمؤسسة الدينية، كالصلاة في الجامع والصيام في رمضان، ومن جهة أخرى، يتم تطبيق الشّريعة بواسطة القانون، فمن لا يصوم، يُنفّذ القانون ضدّه..
ـ لا يستطيع المسلم فصل الإسلام ولا المجتمع عن الدّولة.. لذا فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يمثّل رقابة المجتمع بعضه على بعض، من خلال الانسجام مع الخطوط الّتي تهدّد سلامة المجتمع إذا تخطّاها أو انحرف عنها..
فلو أراد بعض الناس في أيّ مجتمع أن ينشر المخدّرات، هل يقف المجتمع حياديّاً تجاهه؟
ـ هل نساوي المخدّر بأداء الصّلاة أو عدمه؟
ـ أجبني عن هذا.
ـ أجبت بسؤال.
ـ أنت تسلّم معي برفض المخدّر، لأنه يتصل بالجسد وما يؤذيه، كذلك من يعتبر الانحراف أو الجفاف الرّوحيّ مسيئاً إلى المجتمع. فمشكلة البعض أنّهم لا يعطون أشياء معيّنة أهميّة، ويستنكرون على من يمنحها الأهميّة من الآخرين.
ـ أطرح نقطة، وهي علاقة المؤمن بربّه، حين لا تمر عبر الآخرين والمؤسّسة الدينيّة، ما رأيك مثلاً في الكاتب المصريّ نجيب محفوظ، حيث يقول إنه لا يصلي ولا يصوم، لأنها أمور غير أساسيّة في الدين، ولأنّه يرى علاقته بربّه علاقة مباشرة وأكثر حريّة؟
ـ ومن الّذي وقف أمام نجيب محفوظ لأن لا يصلّي أو يصوم؟ إنّ المسألة ليست في التزامه أو لا، فالمجتمع الإسلاميّ مليء بمن لا يصلّون أو يصومون، ولكن لا يعرض لهم أحد بعنف، وإنما يتحدّث معهم الناس بطريقة إنسانيّة وعقلانيّة.
نظرة الإسلام إلى المرأة
ـ أمر ثالث في معرض إشكالات الحريّة في الإسلام، وهو عزل المرأة، أو التّخفيف من وجودها الاجتماعيّ والإنسانيّ، فيما يتعلّق بالثياب تارةً، والحقوق تارة أخرى، والنظرة المتعالية إليها تارة ثالثة، فكيف ترى إلى ذلك؟
ـ أنا أعترض على ذلك وأسأل: لماذا تقمعون حرية المرأة وترفضون أن تخرج عارية؟ لماذا تقيّدون حريّة الرّجل في أن يظهر عارياً في المجتمع؟ لأنّكم تؤمنون بأنه لا بدّ من الثياب أخلاقياً واجتماعياً.
ـ ولكن دون أن يتحوّل الثّوب إلى عكس ما يُراد منه، عبر المبالغة والإسراف...
ـ الخلاف هو في عدد قطع الثّياب.. ومسألة الحريّة تتّصل بالخطوط الأخلاقيّة الّتي تمثّل سلامة المجتمع.
ـ إنما للرّجل في الإسلام حريّة أكبر من المرأة..
ـ نعم، لأنَّ المرأة اعتبرت، ولو من خلال ذهنيّة الرّجل، رمزاً للإغراء.
ـ وهو ألا يغري المرأة؟
ـ بلى، ولكنّه ليس الرمز، ولذا نجد السياسة الإعلامية تركّز على المرأة لا الرّجل، فالمرأة اعتبرت هي الرّمز، لأنّ الرّجل فاعل وهي عنصر منفعل، وإن كان الانفعال قد يتحوّل إلى فعل من خلال بعض الأجواء، فغدت هي أقلّه، في الوعي الإنساني، مركز الإغراء، بحيث تعيش هذا الجانب من شخصيّتها، فترى في الجانب الجماليّ وما يحيط بجسدها هالة معيّنة، بينما ليس لجسد الرّجل مثل هالتها.
هنا نقول: هل للمرأة والرجل حرية في أن يمارسا كلّ حاجاتهما الجسديّة في شكل مطلق؟ في إطار المسيحيّة، يُطلب منهما التزام العفة، وكذلك الإسلام، ولا بدّ للعفّة من جوّ، لا أقول إنّ الحجاب يفرضها، ولكنّه عامل مساعد، ولو أننا نحتاج جوانب أخرى في التربية.
ـ ألا تظنّ أنّ الحجاب يبقى ليذكّرنا بالجسد، وأنّ مجتمعاً مرتاحاً جنسيّاً ليس يحتاج إليه؟
ـ الحجاب يجعلني أفكّر في المرأة كإنسانة، بينما الطّريقة الّتي تعتمدها المرأة، لا تمكّنني من النظر إليها إلا كأنثى، حتّى وأنا أتحدّث معها بكلّ الأحاديث الجديّة..
ـ وجه الإنسان هو المكان حيث تلتقي الرّوح والجسد، وإخفاء الوجه إخفاء لإنسانيّة المرأة..
ـ إخفاء الوجه من التقاليد فقط، الإسلام يفرض على المرأة حجاب جسدها، ما عدا وجهها وكفّيها.
ـ في طريقي إليك، التقيت الدكتورة إلهام كلاّب بساط، وحملتني إليك السؤال، أن تحدثنا عن المرأة كما تشعر بها في أعماقك، بعيداً من رقابة العقل والنصوص والقوانين..
ـ إنني عندما أنظر إلى المرأة، أنظر إليها كإنسان يتكامل مع الإنسان الآخر الّذي هو الرجل.
ـ هل كان هذا حتّى في مراهقتك؟
ـ لا تستطيع أن تحكم على موقفك الآن من موقفك في طفولتك أو مراهقتك.. وأتحدّث الآن كإنسان يفكّر، وأقول إنّ الجانب الجنسي في المرأة كما في الرّجل، حاجة يُراد للإنسان أن يلبّيها كما يلبّي حاجة الأكل والشّرب، ولما كانت مسألة الجنس تتّصل بالتّناسل وتنظيم المجتمع في هذا الجانب، فمن الطبيعيّ أن يكون لها نظام، وهو نظام الزواج..
للمرأة حقّ في أن تكون عنصراً إنسانيّاً فاعلاً يغني الحياة بفكره وتجربته وحركته، تماماً كما هو الرجل في هذا المجال، وإذا كانت الأديان، ومنها الإسلام، تركز على جانب الأمومة، فهي لا يمكن حبسها في هذا الجانب، تماماً كدور الأبوّة الّذي لا يلغي شخصيّة الأب.
ـ أخالفك في أنّ الجنس حاجة كالأكل والشّرب وللتّناسل..
ـ لم أقل للتّناسل، قلت كالأكل والشّرب حاجة جسديّة، وهو أيضاً حاجة اجتماعيّة... أمّا حديث الشعراء عن ذلك، وأنا شاعر، فإنهم يحاولون أن يتخيّلوا أشياء يرتاحون إليها، ولكنّهم عندما يرتبطون بالواقع، لا يجدون فيه شيئاً من الحقيقة.
ـ ليس الشّعراء وحدهم، كلّ منّا عندما يحبّ تجده يفعل...
ـ تحدّثني عن إنسانيّة الحبّ؟
ـ كلا، أتكلّم عن العلاقة بين الرّجل والمرأة، حيث يكون الجانب الجنسيّ بينهما في المرحلة الأولى قويّاً، أي في مستهلّ العلاقة، فتراه يقدم على أشياء لم يكن ليتخيّلها أو يفعلها سابقاً، ولا حتّى لاحقاً حين تستقرّ العلاقة..
ـ لا تستطيع أن تربط ذلك بالجانب الرّوحيّ، فكلّ إنسان، عندما يرغب في شيء، ويرى أنّ الوصول إليه يمرّ في إبداع معيّن أو تفوّق معين، يكون له الإقدام على كثير من حياة السّموّ..
أقول إنّ مسألة الجنس عندما تضعها في نطاقها الطبيعيّ، فإنها تظلّ حاجة كبقية الحاجات. نعم، هناك حالة يحبّ الإنسان فيها أن "يُرَوْحن" المادّة، تماماً كما أنك تأكل على شاطئ نهر أو جبل أو في بستان.. أو أنّك تحاول أن تمارس بعض أوضاعك الخاصّة الجسديّة في أجواء تحاول أن تخلقها حتّى لا تكون المادّة شيئاً جافاً.
الحبّ والشعر وأنسي الحاجّ
ـ "الجنس يأتي بحبّه معه"، عبارة للشاعر أنسي الحاج في كتابه الجديد، ما رأيك فيها؟
ـ لقد قرأت أنسي الحاج كثيراً منذ كان يكتب في ملحق "النّهار"، وأدمنت قراءته، ولكنّي أرى فيه إنساناً يعيش في التجريد أكثر مما يعيش في الواقع.
ـ كيف؟
ـ يحاول أن يعطي الأشياء معاني ليست فيها، هي في الفكر وليست في الواقع، نحن نتحدّث عن الإنسان في واقعه.. وهناك حديث عن الإنسان في خيالاته، وهذه تمثل في كثير من الحالات حالة نفسيّة يحاول أن يهرب فيها من قيوده.
ـ ألا تظنّ سماحة السيّد أنّ الأديان أيضاً نوع من تخييل للواقع، ففكرة فناء الحياة يجري منحها بعداً ماورائياً، لأنّنا لو قبلنا الموت كنهاية لكان الأمر صعباً؟
ـ من الطبيعي أن لكل شيء إيحاءاته، ولكن ثمة فرق بين الإيحاء الّذي يقترب من الواقع ولا يجعلك تنساه لتعطيه صورة غير صورته، وبين الإيحاء الّذي يجعلك تستغرق في فكرك وتنسى الواقع، بحيث إنّك حتى عندما تمارس الجنس، تنسى وتعيش في آفاقك التي تخلقها لنفسك، فيكون لك جنسك في فكرك أكثر مما هو جنسك في جسدك.
ـ أليس هذا أجمل؟
ـ قد يتخدّر الإنسان ببعض الأشياء ليكون الجمال في الخدر، ولكنّ الخدر لا يعطي الإحساس بالواقع.
ـ سيّدنا، حين تصلّي، ألا تصل إلى مرحلة الخدر؟
ـ لا أصل إلى مرحلة الخدر، بل أستطيع أن أعيش الحضور مع الله، إنّه الحقيقة وأشعر به يحيط بي من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وشمالي، فأتصوّر أني أخاطبه لأني أشعر بحضوره.
ـ نعم، ولكنها حالة انخطاف إذاً؟
ـ ليست حالة انخطاف، بل انتقال من موقع إلى موقع، ولكنّي لا أنسى الله ولا نفسي حيث أعيش مع الله.
ـ كلامنا عن الجنس يذكّرني بتعليق للفيلسوف الإنكليزي، برتراند راسل، حين يلاحظ أنّ القوانين يسنّها رجال مسنّون تخلّصوا بسبب العمر من شهوات الجسم ورغباته، فتأتي الموانع والمسموحات ظالمة للشّباب..
ـ أنا لا أوافقه رأيه، لأنّنا نجد أنّ هذه القوانين قد تأتي جامدة من خلال الشّباب، وحيّةً من خلال الشيخ، فهذا يختزن في داخله شبابه، مثلما يختزن الشابّ طفولته.
وربما يكون الشّيخ أو المسنّ أكثر فهماً للحريّة باعتباره عرف النّضوج، لذلك هو يتكلّم بعد معاناة، بينما يتكلم الشابّ عن شيء لم يستكمل تجربته.
ـ إنما طبيعي أنه يحتاج أن يجرّبه بنفسه..
ـ الشيخ يفهم معنى الحريّة من خلال شمولية التجربة، أمّا الشابّ، فينطلق من التجربة الطائرة التي قد يلتقي فيها تجربة أخرى تغيّر أفكاره ومفاهيمه عن الحياة، الفرق أنّ التجربة الناضجة تأخذ الفكرة من كلّ جوانب الواقع.
ـ ولكن في قضايا كالجنس مثلاً، يحتاج المرء لينضج نفسيّاً، إلى أن يجرب بنفسه، لا أن يفكّر ذهنياً..
ـ من الطبيعي أن الشيخ جرّب لأنه عاش شبابه..
ـ هل يجدي أن يُنهى الشابّ عن أن يعيش الكثير من المشاعر والمواقف بنفسه؟
ـ هناك فرق بين أن يُنهى الشابّ عن أن يجرّب، وبين أن يُقال له إن لك أن تأخذ تجربتي الّتي تؤكّد أنّك ستفشل في بعض مواقفك كما فشلت.
اللّحية والسينما والموسيقى
ـ اِسمح لي، حضرة العلامة، ختاماً ببعض الأسئلة الشخصيّة وغير الشخصيّة في آن؛ أسالك عن اللحية التي كانت قديماً قصراً على فئات معيّنة وعلامة على مرتبة دينيّة واجتماعيّة، بينما اليوم يطلق جميع النّاس لحاهم، لماذا تطلق لحيتك؟
ـ كانت اللحية واقعاً طبيعياً يعيشه الإنسان كما شعر رأسه، لكنّ الغربيّين جاؤوا لنا بهذه الموضة، وكانت المسألة مسألة القويّ والضّعيف، فالتزمناها أكثر مما التزموها، واعتبرناها شيئاً طبيعياً. لماذا لا تحلق شعرك؟
ـ لماذا تقصّ شعرك؟
ـ لأخفّف من ضغطه، إنّها قضايا تتّصل بالمزاج..
ـ هل تتابع مسلسلات تلفزيونيّة أو أفلاماً سينمائيّة؟
ـ في بعض الحالات، عندما يكون فيها ما هو اجتماعي، لكنّ وقتي لا يسمح لي بذلك..
ـ كُثُر يتابعون في العالمين العربي والغربي سينما فيلليني..
ـ قلت لا أملك ثقافة في هذا المجال، لأني لا أملك وقتاً للمتابعة..
ـ من يلفتك من كبار المغنين العرب؟
ـ كذلك ليس عندي هذا المزاج.
ـ ألا تسمع أغنيات؟
ـ لا، ربما عندي تحفّظات شرعيّة.
ـ ولا حتّى الموسيقى؟
ـ موسيقى هادئة، ولكن ليست لدي ثقافة في هذا الإطار، لأنّ اهتماماتي الأخرى تأخذ كلّ وقتي.