يعتبر الكدح من أجل تحصيل المعاش من الأعمال الجليلة الممدوحة، فهو ضرورة طبيعية لازمة لقيام الإنسان بحاجاته ونهوض المجتمع بوظيفته في إعمار الأرض وإشاعة الكرامة والعدالة فيها، وهو ـ كذلك ـ ضرورة إنسانية شخصية، لما له من دور فاعل في تحريك القابليات الفكرية والنفسية والجسدية للفرد، فيضفي عليه سعادةً اسثنائيةً وصحةً مونقة.
وإذا كان الإسلام دين الفطرة الذي وازن بين حاجات الروح والجسد وبين الدنيا والآخرة، فإنه لا غرو أن يحث الإنسان على العمل والكدح من أجل معاشه، فيعتبره كالجهاد في سبيل الله تعالى في الفضل والثواب، فقد رُوِيَ عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: "مَنْ طلب هذا الرزق من حِلِّه، ليعودَ به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله.."، كذلك فإنه أفضل العبادة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"؛ وهو مضافاً لآثاره الدنيوية له آثار أخروية باهرة، ففي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: "من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له".
وفي مقابل ذلك شدد الإسلام النكير على البطالين المتكاسلين عن طلب المعاش، سواء عن زهد في الدنيا أو توهماً منهم بأن الرزق ينزل بدون سعي اتكالاً منهم على وجود الله تعالى وكرمه، ففي الحديث أن الإمام الصادق عليه السلام سأل عن رجل، فقيل له: "إنه جليس بيته يعبد الله ويقوته بعض أخوانه"، فقال(ع): "والله، للّذي يقوته أشد عبادة منه"، وفي الحديث عنه(ع) قال:"إني لأبغض الرجل فاغراً فاه إلى ربه، فيقول ارزقني، ويترك الطلب"، وفي بعض الأحاديث أن تارك العمل والسعي في رزقه ممن لا يستجاب لهم، وفي بعضها النهي عن ترك طلب الرزق ولو وقت الحرب.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإنه - مضافاً لكونه عملاً مستحباً - له فضل كبير وثواب جزيل، وقد يصير واجباً، بل إنه في أصل النظر وابتدائه من الواجبات الكفائية التي لا بد من قيام الناس به، فإذا تأدى الوجوب ووُجِد ما يكفي الناس من أنواع الحرف الضرورية وسبل العيش المهمة صار الاشتغال مستحباً، ثم حيث يضعف جانب منه وتشتد الحاجة وتدعو الضرورة إليه يصبح واجباً على نحو الكفاية، كما في مهنة الطب أو النجارة أو غيرهما مما يختلف أمره باختلاف المجتمعات والظروف.
كذلك فإن الأمر لا يقف عند حدّ الاقتصار على تحقيق الحاجة، بل إن في الأحاديث حثاً على طلب الغنى وسعة الرزق، وأن ذلك مما يعين على تقوى الله تعالى.
ومن الواضح - بحسب طبيعة الأشياء - أن جميع الأعمال مهمة وضرورية - نسبياً - لعامة المجتمعات، وهو ما يظهر - أيضاً - من النصوص الشريفة؛ وأما ما ورد منها مما فيه مفاضلة بين بعض الأعمال وبعضها الآخر فإنه ليس ناظراً إلى ما هو الأصل في ذلك، بل ربما يكون ناظراً إلى ما هو الأصلح من هذه الأعمال للفرد في مجتمعٍ يعيش الكفاية الاقتصادية، فكان أن لفتت بعض الأحاديث نظر الفرد إلى أن بعض الأعمال أهم من غيرها على مستوى الإنتاج الفردي، مضافاً لما لها من أهمية نسبية على مستوى الحركة الاقتصادية العامة؛ ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الشريفة أن التجارة أفضل الأعمال، ففي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: "البركة عشرة أجزاء: تسعة أعشارها في التجارة والعُشر الباقي في الجلود (الغنم)؛ وفي الحديث عن المعلّى بن خنيس قال: "رآني أبو عبد الله(ع) وقد تأخرت عن السوق، فقال: "أغد إلى عزك"؛ وتأكيداً على فضلها فإنه قد ورد الذم لمن تركها، ففي الحديث عن الصادق(ع) أنه قال: "ترك التجارة ينقص العقل". وفي حديث آخر عنه(ع) أنه قال: "لا تدعوا التجارة فتَهونوا، اتجروا بارك الله لكم". كما أنه قد جاء في بعضها الآخر الحثّ على الاهتمام بتربية الماشية والاشتغال بذلك، وهو ما يستلزم أو يتلازم ـ عادةً ـ مع الاهتمام بالأرض وزراعتها، ففي الحديث عن الباقر(ع) أنه قال في جواب من سأله عن الفلاحين: "هم الزارعون كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شيءٌ أحبُّ إلى الله من الزراعة..".
فإذا عطفنا هذا الحديث على ما ورد من أن البركة عشرة أجزاء: تسعة أجزاء في التجارة وعُشر في الجلود، أي الغنم، فإننا قد نستظهر من هذا الاختلاف في النصوص التي أعطت الأفضلية للتجارة ثم عادت فأعطتها للزراعة وتربية الماشية المتلازمتين عادة، أن الأفضلية نسبية، وأن سُبُل التكسب تختلف في أولويتها باختلاف ظروف المجتمعات والأفراد وعناصر التنمية المتوفرة عندهم، خاصةً وأن النموّ الاقتصادي ـ في زماننا ـ قد صار أمراً معقداً تتشابك فيه أمور كثيرة وتتكامل فيما بينها من خلال الثالوث الاقتصادي القائم في الصناعة والتجارة والزراعة، وذلك بنحو لا يمكن معه إهمال واحد منه ولا إعطاؤه الأولوية المطلقة، فهذه الأحاديث الشريفة وأمثالها ترشد إلى ما هو الأفضل إجمالاً، من موقع التوجيه لا من موقع التخطيط الاقتصادي بما هو عمل ميداني متغير في أولوياته بتغير الظروف وبما هو منسجم مع حاجة المجتمع لجميع الأعمال.
أما ما ورد في بعض الأحاديث الشريفة ـ بعد التسليم بصحة السند ـ من كراهة الاشتغال ببعض الحرف، مثل الحياكة والجزارة والحجامة، فإن النظر فيها ليس إلى ذات الحرفة كعمل إنتاجي وكحرفة لها أهميتها في حاجة الإنسان وحركة الاقتصاد، لأنها بهذا المعنى قد تصير واجبة عند الضرورة كسائر الحرف التي يحتاج إليها، بل إنه ربما كان النظر فيها إلى ظرف اجتماعي خاص أوجب دونية الصنعة أو المشتغلين بها، فنهى عنها الشرع نهياً تنزيهياً إرشادياً مرتبطاً بذلك الظرف وجوداً وعدماً، فمثلاً لا يعقل أن يمتنع المسلمون عن "الحياكة" في زماننا هذا بعدما صارت صناعة النسيج عملاً هاماً في حاجة الإنسان وفي حركة الاقتصاد، توهماً منهم أن ذلك هو مراد الإسلام من كراهة الحياكة؛ هذا وإنه قد تكون الغاية من الحكم بالكراهة إلفات نظر المسلم إلى ما في بعض الحرف من سلبيات نفسية أو روحية من أجل أن يتلافاها ويتوقاها، وذلك كما في الجزارة التي قد تورث قساوة القلب.
وفي كل الحالات فإنه ربما كان نظر الشارع المقدس فيما ورد من كراهة لبعض الأعمال، أو فيما ورد من تفضيلٍ لبعضها على البعض الآخر، هو الإرشاد إلى ما هو خيار الفرد في مجتمع لا يعيش الضرورة لمثل هذه الحرف والأعمال إذا انحكم خياره في بعضها لظرف اجتماعي خاص أو آثارٍ نفسية سلبية ناتجة عن تلك الحرفة أو ما شاكل ذلك من أسباب الكراهة أو الأفضلية.
يعتبر الكدح من أجل تحصيل المعاش من الأعمال الجليلة الممدوحة، فهو ضرورة طبيعية لازمة لقيام الإنسان بحاجاته ونهوض المجتمع بوظيفته في إعمار الأرض وإشاعة الكرامة والعدالة فيها، وهو ـ كذلك ـ ضرورة إنسانية شخصية، لما له من دور فاعل في تحريك القابليات الفكرية والنفسية والجسدية للفرد، فيضفي عليه سعادةً اسثنائيةً وصحةً مونقة.
وإذا كان الإسلام دين الفطرة الذي وازن بين حاجات الروح والجسد وبين الدنيا والآخرة، فإنه لا غرو أن يحث الإنسان على العمل والكدح من أجل معاشه، فيعتبره كالجهاد في سبيل الله تعالى في الفضل والثواب، فقد رُوِيَ عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: "مَنْ طلب هذا الرزق من حِلِّه، ليعودَ به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله.."، كذلك فإنه أفضل العبادة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"؛ وهو مضافاً لآثاره الدنيوية له آثار أخروية باهرة، ففي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: "من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له".
وفي مقابل ذلك شدد الإسلام النكير على البطالين المتكاسلين عن طلب المعاش، سواء عن زهد في الدنيا أو توهماً منهم بأن الرزق ينزل بدون سعي اتكالاً منهم على وجود الله تعالى وكرمه، ففي الحديث أن الإمام الصادق عليه السلام سأل عن رجل، فقيل له: "إنه جليس بيته يعبد الله ويقوته بعض أخوانه"، فقال(ع): "والله، للّذي يقوته أشد عبادة منه"، وفي الحديث عنه(ع) قال:"إني لأبغض الرجل فاغراً فاه إلى ربه، فيقول ارزقني، ويترك الطلب"، وفي بعض الأحاديث أن تارك العمل والسعي في رزقه ممن لا يستجاب لهم، وفي بعضها النهي عن ترك طلب الرزق ولو وقت الحرب.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإنه - مضافاً لكونه عملاً مستحباً - له فضل كبير وثواب جزيل، وقد يصير واجباً، بل إنه في أصل النظر وابتدائه من الواجبات الكفائية التي لا بد من قيام الناس به، فإذا تأدى الوجوب ووُجِد ما يكفي الناس من أنواع الحرف الضرورية وسبل العيش المهمة صار الاشتغال مستحباً، ثم حيث يضعف جانب منه وتشتد الحاجة وتدعو الضرورة إليه يصبح واجباً على نحو الكفاية، كما في مهنة الطب أو النجارة أو غيرهما مما يختلف أمره باختلاف المجتمعات والظروف.
كذلك فإن الأمر لا يقف عند حدّ الاقتصار على تحقيق الحاجة، بل إن في الأحاديث حثاً على طلب الغنى وسعة الرزق، وأن ذلك مما يعين على تقوى الله تعالى.
ومن الواضح - بحسب طبيعة الأشياء - أن جميع الأعمال مهمة وضرورية - نسبياً - لعامة المجتمعات، وهو ما يظهر - أيضاً - من النصوص الشريفة؛ وأما ما ورد منها مما فيه مفاضلة بين بعض الأعمال وبعضها الآخر فإنه ليس ناظراً إلى ما هو الأصل في ذلك، بل ربما يكون ناظراً إلى ما هو الأصلح من هذه الأعمال للفرد في مجتمعٍ يعيش الكفاية الاقتصادية، فكان أن لفتت بعض الأحاديث نظر الفرد إلى أن بعض الأعمال أهم من غيرها على مستوى الإنتاج الفردي، مضافاً لما لها من أهمية نسبية على مستوى الحركة الاقتصادية العامة؛ ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الشريفة أن التجارة أفضل الأعمال، ففي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: "البركة عشرة أجزاء: تسعة أعشارها في التجارة والعُشر الباقي في الجلود (الغنم)؛ وفي الحديث عن المعلّى بن خنيس قال: "رآني أبو عبد الله(ع) وقد تأخرت عن السوق، فقال: "أغد إلى عزك"؛ وتأكيداً على فضلها فإنه قد ورد الذم لمن تركها، ففي الحديث عن الصادق(ع) أنه قال: "ترك التجارة ينقص العقل". وفي حديث آخر عنه(ع) أنه قال: "لا تدعوا التجارة فتَهونوا، اتجروا بارك الله لكم". كما أنه قد جاء في بعضها الآخر الحثّ على الاهتمام بتربية الماشية والاشتغال بذلك، وهو ما يستلزم أو يتلازم ـ عادةً ـ مع الاهتمام بالأرض وزراعتها، ففي الحديث عن الباقر(ع) أنه قال في جواب من سأله عن الفلاحين: "هم الزارعون كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شيءٌ أحبُّ إلى الله من الزراعة..".
فإذا عطفنا هذا الحديث على ما ورد من أن البركة عشرة أجزاء: تسعة أجزاء في التجارة وعُشر في الجلود، أي الغنم، فإننا قد نستظهر من هذا الاختلاف في النصوص التي أعطت الأفضلية للتجارة ثم عادت فأعطتها للزراعة وتربية الماشية المتلازمتين عادة، أن الأفضلية نسبية، وأن سُبُل التكسب تختلف في أولويتها باختلاف ظروف المجتمعات والأفراد وعناصر التنمية المتوفرة عندهم، خاصةً وأن النموّ الاقتصادي ـ في زماننا ـ قد صار أمراً معقداً تتشابك فيه أمور كثيرة وتتكامل فيما بينها من خلال الثالوث الاقتصادي القائم في الصناعة والتجارة والزراعة، وذلك بنحو لا يمكن معه إهمال واحد منه ولا إعطاؤه الأولوية المطلقة، فهذه الأحاديث الشريفة وأمثالها ترشد إلى ما هو الأفضل إجمالاً، من موقع التوجيه لا من موقع التخطيط الاقتصادي بما هو عمل ميداني متغير في أولوياته بتغير الظروف وبما هو منسجم مع حاجة المجتمع لجميع الأعمال.
أما ما ورد في بعض الأحاديث الشريفة ـ بعد التسليم بصحة السند ـ من كراهة الاشتغال ببعض الحرف، مثل الحياكة والجزارة والحجامة، فإن النظر فيها ليس إلى ذات الحرفة كعمل إنتاجي وكحرفة لها أهميتها في حاجة الإنسان وحركة الاقتصاد، لأنها بهذا المعنى قد تصير واجبة عند الضرورة كسائر الحرف التي يحتاج إليها، بل إنه ربما كان النظر فيها إلى ظرف اجتماعي خاص أوجب دونية الصنعة أو المشتغلين بها، فنهى عنها الشرع نهياً تنزيهياً إرشادياً مرتبطاً بذلك الظرف وجوداً وعدماً، فمثلاً لا يعقل أن يمتنع المسلمون عن "الحياكة" في زماننا هذا بعدما صارت صناعة النسيج عملاً هاماً في حاجة الإنسان وفي حركة الاقتصاد، توهماً منهم أن ذلك هو مراد الإسلام من كراهة الحياكة؛ هذا وإنه قد تكون الغاية من الحكم بالكراهة إلفات نظر المسلم إلى ما في بعض الحرف من سلبيات نفسية أو روحية من أجل أن يتلافاها ويتوقاها، وذلك كما في الجزارة التي قد تورث قساوة القلب.
وفي كل الحالات فإنه ربما كان نظر الشارع المقدس فيما ورد من كراهة لبعض الأعمال، أو فيما ورد من تفضيلٍ لبعضها على البعض الآخر، هو الإرشاد إلى ما هو خيار الفرد في مجتمع لا يعيش الضرورة لمثل هذه الحرف والأعمال إذا انحكم خياره في بعضها لظرف اجتماعي خاص أو آثارٍ نفسية سلبية ناتجة عن تلك الحرفة أو ما شاكل ذلك من أسباب الكراهة أو الأفضلية.