في ذكرى الإمام علي الرضا(ع): مذهب أهل البيت(ع) خط ومنهج رسالي

في ذكرى الإمام علي الرضا(ع): مذهب أهل البيت(ع) خط ومنهج رسالي

في ذكرى الإمام علي الرضا(ع): مذهب أهل البيت(ع) خط ومنهج رسالي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمام الرضا(ع): مرجع المسلمين

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي مرّت ذكرى وفاته في يوم السابع عشر من شهر صفر، هذا الإمام الذي يتحدث عنه معاصروه أنه لم يُرَ أعلم منه في كل علماء المسلمين الذين عاصروه، ولم يُرَ أكثر عظمة منه في أخلاقه، وفي كلماته مع الآخرين، واحترامه في سلوكه معهم، وانفتاحه عليهم، وكان(ع) في حديثه مع الناس ـ سواء كانوا من أنصاره أو من أعدائه ـ لا تصدر منه ـ حتى عندما يواجه العنف من الآخرين ـ شتيمة لأحد ولا يجفو أحداً في كلامه أو يقسو عليه، وكان (ع) ـ كما يقول كتّاب سيرته ـ إذا دخل مسجد رسول الله (ص) والقوم من علماء المدينة مجتمعون فيه والناس يسألونهم، فإذا عجزوا عن الجواب ـ كل العلماء ـ أشاروا إليه ووجدوا الجواب عنده، فكان المرجع لعلماء المسلمين حتى ممن لا يقولون بإمامته.

وقد جمع له المأمون ـ وهو الخليفة العباسي المثقف الذي كان يتميّز عن آبائه ومن جاء بعده من الخلفاء بأنه كان يملك ثقافةً واسعة، وكان عصره عصراً تسود فيه حركة ثقافية ناشطة ـ جمع له جماعة من مختلف الأديان، من النصارى واليهود والصابئة والزرادشتية وغيرهم من أصحاب المذاهب الفلسفية والكلامية، وأراد لهم أن يحاوروه ويسألوه، فتغلّب عليهم جميعاً، كما ذُكر ذلك في كتاب سيرته.

الإمامة: امتداد لحركية النبوّة

ولذلك، فقد كان الإمام الرضا(ع) محلَّ ثقة المسلمين كلهم، من العلماء والمثقفين وغيرهم، كان هناك ثقة بعلمه الواسع الذي ورثه عن آبائه وأجداده، ونحن نعرف حقيقةً في أئمة أهل البيت (ع) ـ ولا بد أن تنتبهوا إليها ـ وهي أن بعض الناس كانوا يعتبرون أنّ مذهب أهل البيت(ع) هو واحد من المذاهب الإسلامية المختلفة، أهل البيت ـ ولا سيما الإمام الصادق(ع) الذي يُنسب المذهب إليه ـ مجتهدين كبقية المجتهدين، والجميع يعرفون أن المجتهدين ليسوا معصومين، فالمجتهد قد يخطىء ويصيب باجتهاده، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد. ولكن ـ في عقيدتنا كشيعة إمامية اثني عشرية ـ أن الأئمة (ع) معصومون، وأن ما تحدثوا به هو حديث رسول الله (ص) الذي يمتد في كل إيحاءاته إلى كل ما يحتاجه الناس، وهذا ما قاله عليّ (ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب". فالأساس هو حديث رسول الله (ص)، ولكن هذا الحديث كان يفتح لعليّ (ع) أبواباً يمكن له أن يعالج فيها كل ما يحتاجه الناس من قضايا، وما يجيب على كل أسئلتهم.

وهكذا كان الإمام الصادق (ع) يقول: "حديثي حديث أبي ـ فأنا لا أتحدث عن اجتهاد، وإنما أتحدث من النبع الصافي ـ وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث علي، وحديث عليّ حديث رسول الله، وحديث رسول الله حديث جبرائيل عن الله عزّ وجلّ"، ولذلك نحن ننطلق من أن النبوة أساس في نبوة النبي(ص)، وأن الإمامة هي امتداد لحركية النبوة في الأئمة(ع)، فالأئمة ليسوا مجتهدين، بل هم يؤدّون عن رسول الله (ص) وعما ينفتح عليهم من رسول الله في الأبواب التي تتمثل فيها كل قضايا الناس وحاجاتهم. لهذا لا يعتبر مذهب أهل البيت(ع) كالمذاهب الأخرى، ولكنه خط ومنهج رسالي يمتد إلى رسول الله (ص)، لأن من عقيدتنا العصمة؛ عصمة الأئمة (ع)، تماماً كما هي عصمة الأنبياء بأجمعهم في هذا المجال، وإن كان بعض "المشايخ والسيّاد" يقول إن "السيد" لا يقول بعصمة الأنبياء والأئمة (ع)، مما يكذبون فيه بطريقة وبأخرى، هداهم الله.

ولاية العهد: في خدمة الناس والثقافة

ومرحلة الإمام الرضا (ع) كانت مرحلة حاسمة ومليئة بالحركة، لأن المأمون بعد أن انتصر على أخيه الأمين في صراعه معه على الخلافة، دعا الإمام الرضا(ع) ليتنازل له عن الخلافة، وإذا لم يقبل الإمام الرضا(ع) فيكون وليّ عهده، ويختلف المؤرخون في الظروف التي أحاطت بهذا العرض، وفي خلفيات ذلك، ولماذا أراد المأمون أن يُخرج الخلافة من بني العباس ليجعلها في بني عليّ(ع)، وهل مورس ضغطٌ ما على الإمام (ع) للقبول بولاية العهد؟ هذه أبحاث ليس محلها الآن، ولكن النتيجة هي أن الإمام (ع) قبل ولاية العهد بشروط معينة، وقد استطاع خلال فترة هذه الولاية أن يقدّم الكثير من الخدمات للثقافة الإسلامية وللمنهج الروحي لأهل البيت (ع) وللمنهج الأخلاقي، وأن يخفِّف الكثير من آلام الناس. وقد اختلف المؤرخون أيضاً في وفاة الإمام الرضا (ع)، فهناك من يقول إن المأمون بعد أن صالح عائلته من بني العباس أراد أن يتخلّص من الإمام (ع)، فدسّ له السم، وهناك من علمائنا من يتحفّظ في ذلك. وهكذا توفي الإمام الرضا(ع) في "طوس"، ودُفن إلى جانب هارون الرشيد، وقد نظم الشاعر دعبل الخزاعي الموالي لأهل البيت(ع)، بيتين من الشعر، وهما مكتوبان في مقام الإمام(ع):

قبران في طـوس خير الناس كلّهـم       وقبـر شــرّهم هـذا من العبـر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما      على الزكي بقرب الرجس من ضرر

وقفة مع وصاياه وحكمه

عندما نتذكّر الإمام الرضا(ع)، هذا الإمام الذي ملأ العالم الإسلامي علماً وروحاً وخلقاً وزهادةً وحركة، فإننا نحتاج إلى أن نقف مع بعض وصاياه وكلماته، لنعتبر بها، ولعلنا نتصوّر أن الإمام(ع) معنا يحدثنا، لأنه إذا غاب عنا بجسده فإنه لم يغب عنا بعلمه ووصاياه. ففي بعض وصاياه للسيد عبد العظيم الحسني ـ ومقامه في طهران وهو من العلماء الأعاظم وكان الأئمة (ع) يقدّرونه، وقد كان ملتزماً بإمامة الأئمة، وهو من أولاد الإمام الحسن (ع) ـ وقد أرسل معه رسالة إلى أوليائه، وهذه الرسالة تمتد مع الزمن، فالإمام (ع) يخاطب شيعته في كل زمان ومكان، لأن هذه الوصايا تتصل بكل الواقع الأخلاقي والاجتماعي لأتباع أهل البيت (ع)، قال له:

"يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السلام ـ وعليك السلام يا سيدنا ومولانا يا أبا الحسن الرضا ـ وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ـ لا تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه في معصية الله تعالى، ولا تنجذبوا إليه عندما يثير غرائزكم ويحوّلها إلى الحرام، لا تجعلوا له سلطةً عليكم، وأغلقوا كل طريق له إلى عقولكم وقلوبكم ـ ومرهم بالصدق في الحديث ـ كونوا الصادقين، فإن أهل البيت(ع) ساروا على خط جدهم الصادق الأمين ـ وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال في ما لا يعنيهم ـ أن لا يتجادلوا في ما لا يتصل بعقائدهم وحياتهم، كالكثير من القضايا التي يتجادل فيها الناس في ما لا طائل منه ولا فائدة فيه، بل أن يسأل الإنسان عن أصول دينه وتكاليفه الشرعية، وعن الواقع الذي يتحدى عزته وكرامته ـ وإقبال بعضهم على بعض ـ أن لا يتدابروا ويتقاطعوا، بل يقبل بعضهم على بعض ـ والمزاورة، فإن ذلك قربةً إليّ ـ فإذا أرادوا أن يكونوا قريبين مني فليزوروا بعضهم بعضاً، فلا يكفي أن نذهب لزيارة الإمام الرضا (ع) ونحن نتقاتل ونتحاقد ـ ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً ـ بالغيبة والنميمة والفتنة بين المؤمنين، هل الشيعة كذلك؟ فإذا فعلوا ذلك فما هو موقف الإمام (ع) ـ فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط ولياً من أوليائي، دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشد العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين ـ هؤلاء الذين يتحركون بالعصبيات العائلية والقروية والحزبية والسياسية والشخصانية ـ وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به أو آذى ولياً من أوليائي أو أضمر له سوءاً، فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع عنه وإلا نزع روح الإيمان من قلبه وخرج من ولايتي ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".

هذا كلام الإمام الرضا (ع)، وهي وصية موجهة للمسلمين السائرين على خط أهل البيت(ع)، ليسيروا في هذا المنهج، ويكونوا مجتمعاً واحداً، وإذا اختلفوا فليردُّوا ذلك إلى الله والرسول.. أما الواقع الذي نعيشه، فقد صار البعض يبرّر بغضبه ومحاربته للآخرين على أساس شرعي!! أصبحوا يتلاعبون بالشرع والدين، حتى جعلوا الدين موظفاً لعصبياتهم وأحقادهم، وهم بذلك يدمّرون المجتمع.

إن المسلمين ـ بشكل عام ـ والشيعة ـ بشكل خاص ـ تتجمّع الدنيا عليهم، ولكننا على بعضنا أخطر. نحن نمزق بعضنا بعضاً، وندمّر بعضنا بعضاً، وكل واحد يقول: "أنا لا الآخر"، وتفرقنا شيعاً وأحزاباً، وأصبحت العائلية عصبية، والحزبية عصبية، وأصبحت المرجعية عصبية، وكل يوم ننتج عصبية جديدة، وبعد ذلك نذهب ونزور الأئمة (ع)، فلا تخسروا أموالكم ما دمتم بهذه الأخلاق، تستطيع أن تقف هنا وتقول: "السلام عليك يا أبا الحسن يا عليّ بن موسى الرضا"، وأن تعمل بمواعظه ووصاياه... وللإمام (ع) كلام كثير جداً نرجو أن نتحدث عنه في ما نستقبل.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموالين للإمام الرضا (ع)، ولآبائه وأبنائه، ونسأله تعالى أن يجعلنا من جنود حفيده الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وذلك بأن نأخذ بالعدل الذي هو الهدف الأساس، لأن من يطالب بالعدل وإقامته، لا بد أن يكون عادلاً مع ربه ومع نفسه وبيته ومع الناس من حوله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم بكل ما يتصل بالتحديات التي تواجه المسلمين في أقطار الأرض، ولا سيما في فلسطين والعراق، حيث يتساقط الرجال والنساء والأطفال بفعل الأسلحة الأمريكية الإسرائيلية المتطورة، إننا لا نزال في كل يوم نسمع أصوات كل هؤلاء المستضعفين من المدنيين من المسلمين ـ سنّة وشيعة ـ فقد وحّدتهم مواجهة الاحتلال ودماء الضحايا التي سقطت هنا وهناك، والبيوت التي تُدمَّر والحصار الذي يُطبق عليهم..

علينا أن نواجه هذا الأمر بالكثير من الوعي والصوت العالي الذي يقف ضد المستكبرين الذين يتحدثون عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها في الواقع كلمة حق يختفي الباطل خلفها، لأنهم يريدون للعالم الإسلامي أن يكون ضعيفاً بحكّامه وكل أفراده، وليكون لهم ولربيبتهم إسرائيل القوة المطلقة، فتعالوا لنعرف تفاصيل ما هناك:

فلسطين والعراق: مشهد الجريمة واحد

المشهد الدامي في صورة المجازر الوحشية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه من المدنيين، يتكرر في صورة المجازر الوحشية الأمريكية ضد الشعب العراقي.. وإذا كان الفلسطينيون يقاتلون في فلسطين كردّ فعل للاحتلال ومجازره، فإن الشعب العراقي ـ في الأحداث الأخيرة ـ يقاتل كردّ فعل للاحتلال ومجازره أيضاً..

كما أن العقوبات الجماعية للشعب الفلسطيني من أجل اعتقال شخص أو ثأر لجندي، بقصف السكان المدنيين الآمنين في شوارعهم وقراهم ومدنهم ومخيماتهم بطائرات الـ"أف 16" الأمريكية، هي نفسها العقوبات الجماعية للشعب العراقي من أجل اعتقال شخص أو ثأر لجندي أمريكي، بقصف المدنيين في مساجدهم وبيوتهم الفقيرة الآمنة في النجف والفلوجة وبغداد وغيرها، بالطائرات نفسها التي لا تُستخدم إلا في الحروب الكبرى.. والحصار المفروض على ثلاثمائة ألف مدني في الفلوجة، مشابه للحصار الإسرائيلي للشعب الفلسطيني كله!!

وإذا كان الأمريكيون يتحدثون عن تحرير الشعب العراقي ونشر الحرية والديمقراطية في صفوفه، فالسؤال: هل هذه هي الطريقة التي تقنع الشعب العراقي بصورة الديمقراطية الأمريكية؟ وهل إن استعمال القوة المفرطة التي تقصف الناس قصفاً عشوائياً تجعل هذا الشعب يحب أمريكا ويؤيدها، أم أن ذلك سوف يزيد كراهية هذا الشعب ـ ومعه الشعوب العربية والإسلامية ـ لها؟؟

إننا نلاحظ أن هناك دولتين في العالم لا يُسمح للمحاكم الدولية ولا لمجلس الأمن أن تحاكم جنودهما على جرائم الحرب التي يقومون بها ضد المدنيين، هما أمريكا وإسرائيل، ونحن نعلم أن أمريكا عاقبت بعض الدول التي صوّتت لصالح المحاكمة الدولية لجنودها، كما أنها تقف لحماية حليفتها إسرائيل من ذلك كله.. ولذلك، فإنهما لا تخافان من المحاسبة الدولية على كل ما تقومان به من الجرائم في العالم..

إننا نعتقد أنه لا بد لأمريكا التي تتحدث عن العدل في بعض الجرائم التي حدثت في العراق، أن تقدّم نفسها للعدالة على جرائمها في هذا البلد.. وإذا كانت قد أسقطت النظام الطاغي لحسابات مصالحها، فإن ذلك أصبح من الماضي، والمسألة هي: ماذا عن الحاضر والمستقبل؟ وهل إن أمريكا تريد أن تزيد عدد المقابر الجماعية في هذه المرحلة، كما ساهمت ـ بشكل غير مباشر ـ في المقابر الجماعية من خلال تأييدها عميلها صدام لإسقاط الانتفاضة الشعبانية الماضية؟؟

إننا نشعر أنّ هناك تعقيدات حدثت في بعض الأوضاع في العراق، ولكن طريقة المعالجة لن تكون بالأسلوب الأمريكي الوحشي، وإن الإدارة الأمريكية ـ بغبائها السياسي ـ أحرجت حتى العاملين معها، ما أدى إلى إرباك مواقفهم وحيرة تصريحاتهم الغارقة في الضباب، ما عدا بعض الأطراف العراقية غير العربية التي وصفت المعارضة العراقية بـ"المجرمين والإرهابيين"، لأنهم يتحركون من خلال طموحات قومية قريبة للاستراتيجية الأمريكية، مع الأسف؟!

استنكار محاولات إثارة الفتنة

إننا في الوقت الذي نتحدث فيه عن رفض الأساليب الأمريكية في معالجة الواقع العراقي الأخير، أكدنا ونؤكد دائماً رفضنا الحازم للعنف الذي يطال المدنيين العراقيين في مساجدهم وأماكنهم المقدّسة، وفي رموزهم الدينية والمؤسسات الإنسانية، فإن هذا العنف لا يأخذ شرف اسم المقاومة، بل يأخذ اسم الجريمة والإرهاب مهما كانت صفتهم ودوافعهم..

وبهذه المناسبة، فإننا نشجب البيان الصادر باسم "الزرقاوي" ـ الذي لم ينفه ـ والذي يعمل على أساس التخطيط للاعتداء على أئمة المسلمين الشيعة وقياداتهم، ما يفرض على العراقيين جميعاً، ولا سيما إخواننا علماء المسلمين السنّة، أن يرفعوا الصوت عالياً ضد هذه الذهنية الطائفية التي تعمل على أساس تنفيذ المخطط الاستكباري لإيجاد الفتنة المذهبية الحاقدة الجاهلة بين المسلمين..

كما أننا نستنكر محاولات إثارة الفتنة في أكثر من موقع، ومن بينها الأشرطة والكتب التي توزَّع في الكويت، لإثارة الانقسام في الصف الإسلامي، ونريد لإخواننا هناك أن يقفوا صفاً واحداً في وحدة الأسرة الكويتية على أساس الوحدة الإسلامية..

المرحلة الحاضرة: امتحان للجميع

وفي هذا الجو، فإننا نحذِّر ـ أمام هذه الفوضى الأمنية في العراق ـ من الجماعات التي تصطاد في الماء العكر، وتتحرك لتنفيذ مجزرة أربعينية جديدة في كربلاء على صورة المجزرة العاشورائية، ونريد لكل إخواننا أن يكون كل مواطن منهم خفيراً.. ومن جهة أخرى، فإننا ندعو الجميع إلى احترام المواطنين في أنفسهم وأموالهم وأوضاعهم العامة، بأن لا يسمحوا للصوص والمجرمين وأمثالهم بالعبث بالأمن العام، فإن ذلك مسؤولية الجميع، لأن الفوضى لن تكون إلا في خدمة الاحتلال.. كما أننا نهيب بالمخلصين من العاملين في الساحة السياسية والإدارية العراقية أن يقفوا مع شعبهم لا مع المحتلين، فإن المرحلة الحاضرة تمثل الامتحان للجميع.

وتبقى لنا كلمة للعرب والمسلمين، لا سيما على مستوى الأنظمة، حول هذا الصمت المطبق أمام هذه المجازر الأمريكية، على غرار الصمت المماثل أمام المجازر الإسرائيلية، ونتساءل: عن أية قمة عربية مقبلة يتحدثون؟ وعن أيّ مستقبل عربي يتناقشون؟ وعن أيّ إصلاح ديمقراطي يتحدّثون، وعن أيّ عراق يتحاورون؟؟ إن القمة السابقة سقطت بوحي أمريكي، وإن هذه القمة سوف تُعقد بنفس الوحي بعد تغيير ما أُريد له أن يتغيّر لخدمة المصالح الأمريكية.

لبنان: عجز في معالجة الأزمات

أما في لبنان، فإن الواقع الذي يحكمه هو التعايش بين الطوائف، مع بعض التعقيدات التي يثيرها الطائفيون، إلى جانب التعايش مع الأزمات المزمنة، والركود الاقتصادي، وارتفاع أرقام الدَّيْن العام إلى ضعفي الناتج المحلي، وامتداد الضرائب التي يذهب تسعون بالمائة منها لخدمة بعض الأثرياء الذين يقدّم لهم الفقراء ثلاثة مليارات سنوياً، أما الثابت في لبنان، فهو التجاذبات السياسية داخل السلطة التي تأكل استقراره ومصداقيته وإبداعه وحيويته، أما المتغيّر فيه، فهو الإصلاح السياسي والمالي والاقتصادي، الذي لا ينفتح له باب إلا ليُغلق له في مقابل ذلك ألف باب، بفعل إدمان الهدر والصفقات والسرقة التي يتحرك فيها الجراد السياسي والإداري ليأكل الأخضر واليابس..

إن المشكلة هي أن هناك اعترافاً بالعجز عن معالجة الأزمات، والإصرار ـ معها ـ على البقاء، ليكتمل العجز والانهيار، ويبقى الشعب في ملهاة العائليات والحزبيات والشخصانيات باسم الانتخابات، ولينسى جوعه باسم المائدة الغنية بالعصبيات.

في ذكرى الإمام علي الرضا(ع): مذهب أهل البيت(ع) خط ومنهج رسالي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمام الرضا(ع): مرجع المسلمين

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي مرّت ذكرى وفاته في يوم السابع عشر من شهر صفر، هذا الإمام الذي يتحدث عنه معاصروه أنه لم يُرَ أعلم منه في كل علماء المسلمين الذين عاصروه، ولم يُرَ أكثر عظمة منه في أخلاقه، وفي كلماته مع الآخرين، واحترامه في سلوكه معهم، وانفتاحه عليهم، وكان(ع) في حديثه مع الناس ـ سواء كانوا من أنصاره أو من أعدائه ـ لا تصدر منه ـ حتى عندما يواجه العنف من الآخرين ـ شتيمة لأحد ولا يجفو أحداً في كلامه أو يقسو عليه، وكان (ع) ـ كما يقول كتّاب سيرته ـ إذا دخل مسجد رسول الله (ص) والقوم من علماء المدينة مجتمعون فيه والناس يسألونهم، فإذا عجزوا عن الجواب ـ كل العلماء ـ أشاروا إليه ووجدوا الجواب عنده، فكان المرجع لعلماء المسلمين حتى ممن لا يقولون بإمامته.

وقد جمع له المأمون ـ وهو الخليفة العباسي المثقف الذي كان يتميّز عن آبائه ومن جاء بعده من الخلفاء بأنه كان يملك ثقافةً واسعة، وكان عصره عصراً تسود فيه حركة ثقافية ناشطة ـ جمع له جماعة من مختلف الأديان، من النصارى واليهود والصابئة والزرادشتية وغيرهم من أصحاب المذاهب الفلسفية والكلامية، وأراد لهم أن يحاوروه ويسألوه، فتغلّب عليهم جميعاً، كما ذُكر ذلك في كتاب سيرته.

الإمامة: امتداد لحركية النبوّة

ولذلك، فقد كان الإمام الرضا(ع) محلَّ ثقة المسلمين كلهم، من العلماء والمثقفين وغيرهم، كان هناك ثقة بعلمه الواسع الذي ورثه عن آبائه وأجداده، ونحن نعرف حقيقةً في أئمة أهل البيت (ع) ـ ولا بد أن تنتبهوا إليها ـ وهي أن بعض الناس كانوا يعتبرون أنّ مذهب أهل البيت(ع) هو واحد من المذاهب الإسلامية المختلفة، أهل البيت ـ ولا سيما الإمام الصادق(ع) الذي يُنسب المذهب إليه ـ مجتهدين كبقية المجتهدين، والجميع يعرفون أن المجتهدين ليسوا معصومين، فالمجتهد قد يخطىء ويصيب باجتهاده، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد. ولكن ـ في عقيدتنا كشيعة إمامية اثني عشرية ـ أن الأئمة (ع) معصومون، وأن ما تحدثوا به هو حديث رسول الله (ص) الذي يمتد في كل إيحاءاته إلى كل ما يحتاجه الناس، وهذا ما قاله عليّ (ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب". فالأساس هو حديث رسول الله (ص)، ولكن هذا الحديث كان يفتح لعليّ (ع) أبواباً يمكن له أن يعالج فيها كل ما يحتاجه الناس من قضايا، وما يجيب على كل أسئلتهم.

وهكذا كان الإمام الصادق (ع) يقول: "حديثي حديث أبي ـ فأنا لا أتحدث عن اجتهاد، وإنما أتحدث من النبع الصافي ـ وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث علي، وحديث عليّ حديث رسول الله، وحديث رسول الله حديث جبرائيل عن الله عزّ وجلّ"، ولذلك نحن ننطلق من أن النبوة أساس في نبوة النبي(ص)، وأن الإمامة هي امتداد لحركية النبوة في الأئمة(ع)، فالأئمة ليسوا مجتهدين، بل هم يؤدّون عن رسول الله (ص) وعما ينفتح عليهم من رسول الله في الأبواب التي تتمثل فيها كل قضايا الناس وحاجاتهم. لهذا لا يعتبر مذهب أهل البيت(ع) كالمذاهب الأخرى، ولكنه خط ومنهج رسالي يمتد إلى رسول الله (ص)، لأن من عقيدتنا العصمة؛ عصمة الأئمة (ع)، تماماً كما هي عصمة الأنبياء بأجمعهم في هذا المجال، وإن كان بعض "المشايخ والسيّاد" يقول إن "السيد" لا يقول بعصمة الأنبياء والأئمة (ع)، مما يكذبون فيه بطريقة وبأخرى، هداهم الله.

ولاية العهد: في خدمة الناس والثقافة

ومرحلة الإمام الرضا (ع) كانت مرحلة حاسمة ومليئة بالحركة، لأن المأمون بعد أن انتصر على أخيه الأمين في صراعه معه على الخلافة، دعا الإمام الرضا(ع) ليتنازل له عن الخلافة، وإذا لم يقبل الإمام الرضا(ع) فيكون وليّ عهده، ويختلف المؤرخون في الظروف التي أحاطت بهذا العرض، وفي خلفيات ذلك، ولماذا أراد المأمون أن يُخرج الخلافة من بني العباس ليجعلها في بني عليّ(ع)، وهل مورس ضغطٌ ما على الإمام (ع) للقبول بولاية العهد؟ هذه أبحاث ليس محلها الآن، ولكن النتيجة هي أن الإمام (ع) قبل ولاية العهد بشروط معينة، وقد استطاع خلال فترة هذه الولاية أن يقدّم الكثير من الخدمات للثقافة الإسلامية وللمنهج الروحي لأهل البيت (ع) وللمنهج الأخلاقي، وأن يخفِّف الكثير من آلام الناس. وقد اختلف المؤرخون أيضاً في وفاة الإمام الرضا (ع)، فهناك من يقول إن المأمون بعد أن صالح عائلته من بني العباس أراد أن يتخلّص من الإمام (ع)، فدسّ له السم، وهناك من علمائنا من يتحفّظ في ذلك. وهكذا توفي الإمام الرضا(ع) في "طوس"، ودُفن إلى جانب هارون الرشيد، وقد نظم الشاعر دعبل الخزاعي الموالي لأهل البيت(ع)، بيتين من الشعر، وهما مكتوبان في مقام الإمام(ع):

قبران في طـوس خير الناس كلّهـم       وقبـر شــرّهم هـذا من العبـر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما      على الزكي بقرب الرجس من ضرر

وقفة مع وصاياه وحكمه

عندما نتذكّر الإمام الرضا(ع)، هذا الإمام الذي ملأ العالم الإسلامي علماً وروحاً وخلقاً وزهادةً وحركة، فإننا نحتاج إلى أن نقف مع بعض وصاياه وكلماته، لنعتبر بها، ولعلنا نتصوّر أن الإمام(ع) معنا يحدثنا، لأنه إذا غاب عنا بجسده فإنه لم يغب عنا بعلمه ووصاياه. ففي بعض وصاياه للسيد عبد العظيم الحسني ـ ومقامه في طهران وهو من العلماء الأعاظم وكان الأئمة (ع) يقدّرونه، وقد كان ملتزماً بإمامة الأئمة، وهو من أولاد الإمام الحسن (ع) ـ وقد أرسل معه رسالة إلى أوليائه، وهذه الرسالة تمتد مع الزمن، فالإمام (ع) يخاطب شيعته في كل زمان ومكان، لأن هذه الوصايا تتصل بكل الواقع الأخلاقي والاجتماعي لأتباع أهل البيت (ع)، قال له:

"يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السلام ـ وعليك السلام يا سيدنا ومولانا يا أبا الحسن الرضا ـ وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ـ لا تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه في معصية الله تعالى، ولا تنجذبوا إليه عندما يثير غرائزكم ويحوّلها إلى الحرام، لا تجعلوا له سلطةً عليكم، وأغلقوا كل طريق له إلى عقولكم وقلوبكم ـ ومرهم بالصدق في الحديث ـ كونوا الصادقين، فإن أهل البيت(ع) ساروا على خط جدهم الصادق الأمين ـ وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال في ما لا يعنيهم ـ أن لا يتجادلوا في ما لا يتصل بعقائدهم وحياتهم، كالكثير من القضايا التي يتجادل فيها الناس في ما لا طائل منه ولا فائدة فيه، بل أن يسأل الإنسان عن أصول دينه وتكاليفه الشرعية، وعن الواقع الذي يتحدى عزته وكرامته ـ وإقبال بعضهم على بعض ـ أن لا يتدابروا ويتقاطعوا، بل يقبل بعضهم على بعض ـ والمزاورة، فإن ذلك قربةً إليّ ـ فإذا أرادوا أن يكونوا قريبين مني فليزوروا بعضهم بعضاً، فلا يكفي أن نذهب لزيارة الإمام الرضا (ع) ونحن نتقاتل ونتحاقد ـ ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً ـ بالغيبة والنميمة والفتنة بين المؤمنين، هل الشيعة كذلك؟ فإذا فعلوا ذلك فما هو موقف الإمام (ع) ـ فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط ولياً من أوليائي، دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشد العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين ـ هؤلاء الذين يتحركون بالعصبيات العائلية والقروية والحزبية والسياسية والشخصانية ـ وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به أو آذى ولياً من أوليائي أو أضمر له سوءاً، فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع عنه وإلا نزع روح الإيمان من قلبه وخرج من ولايتي ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".

هذا كلام الإمام الرضا (ع)، وهي وصية موجهة للمسلمين السائرين على خط أهل البيت(ع)، ليسيروا في هذا المنهج، ويكونوا مجتمعاً واحداً، وإذا اختلفوا فليردُّوا ذلك إلى الله والرسول.. أما الواقع الذي نعيشه، فقد صار البعض يبرّر بغضبه ومحاربته للآخرين على أساس شرعي!! أصبحوا يتلاعبون بالشرع والدين، حتى جعلوا الدين موظفاً لعصبياتهم وأحقادهم، وهم بذلك يدمّرون المجتمع.

إن المسلمين ـ بشكل عام ـ والشيعة ـ بشكل خاص ـ تتجمّع الدنيا عليهم، ولكننا على بعضنا أخطر. نحن نمزق بعضنا بعضاً، وندمّر بعضنا بعضاً، وكل واحد يقول: "أنا لا الآخر"، وتفرقنا شيعاً وأحزاباً، وأصبحت العائلية عصبية، والحزبية عصبية، وأصبحت المرجعية عصبية، وكل يوم ننتج عصبية جديدة، وبعد ذلك نذهب ونزور الأئمة (ع)، فلا تخسروا أموالكم ما دمتم بهذه الأخلاق، تستطيع أن تقف هنا وتقول: "السلام عليك يا أبا الحسن يا عليّ بن موسى الرضا"، وأن تعمل بمواعظه ووصاياه... وللإمام (ع) كلام كثير جداً نرجو أن نتحدث عنه في ما نستقبل.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموالين للإمام الرضا (ع)، ولآبائه وأبنائه، ونسأله تعالى أن يجعلنا من جنود حفيده الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وذلك بأن نأخذ بالعدل الذي هو الهدف الأساس، لأن من يطالب بالعدل وإقامته، لا بد أن يكون عادلاً مع ربه ومع نفسه وبيته ومع الناس من حوله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم بكل ما يتصل بالتحديات التي تواجه المسلمين في أقطار الأرض، ولا سيما في فلسطين والعراق، حيث يتساقط الرجال والنساء والأطفال بفعل الأسلحة الأمريكية الإسرائيلية المتطورة، إننا لا نزال في كل يوم نسمع أصوات كل هؤلاء المستضعفين من المدنيين من المسلمين ـ سنّة وشيعة ـ فقد وحّدتهم مواجهة الاحتلال ودماء الضحايا التي سقطت هنا وهناك، والبيوت التي تُدمَّر والحصار الذي يُطبق عليهم..

علينا أن نواجه هذا الأمر بالكثير من الوعي والصوت العالي الذي يقف ضد المستكبرين الذين يتحدثون عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها في الواقع كلمة حق يختفي الباطل خلفها، لأنهم يريدون للعالم الإسلامي أن يكون ضعيفاً بحكّامه وكل أفراده، وليكون لهم ولربيبتهم إسرائيل القوة المطلقة، فتعالوا لنعرف تفاصيل ما هناك:

فلسطين والعراق: مشهد الجريمة واحد

المشهد الدامي في صورة المجازر الوحشية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه من المدنيين، يتكرر في صورة المجازر الوحشية الأمريكية ضد الشعب العراقي.. وإذا كان الفلسطينيون يقاتلون في فلسطين كردّ فعل للاحتلال ومجازره، فإن الشعب العراقي ـ في الأحداث الأخيرة ـ يقاتل كردّ فعل للاحتلال ومجازره أيضاً..

كما أن العقوبات الجماعية للشعب الفلسطيني من أجل اعتقال شخص أو ثأر لجندي، بقصف السكان المدنيين الآمنين في شوارعهم وقراهم ومدنهم ومخيماتهم بطائرات الـ"أف 16" الأمريكية، هي نفسها العقوبات الجماعية للشعب العراقي من أجل اعتقال شخص أو ثأر لجندي أمريكي، بقصف المدنيين في مساجدهم وبيوتهم الفقيرة الآمنة في النجف والفلوجة وبغداد وغيرها، بالطائرات نفسها التي لا تُستخدم إلا في الحروب الكبرى.. والحصار المفروض على ثلاثمائة ألف مدني في الفلوجة، مشابه للحصار الإسرائيلي للشعب الفلسطيني كله!!

وإذا كان الأمريكيون يتحدثون عن تحرير الشعب العراقي ونشر الحرية والديمقراطية في صفوفه، فالسؤال: هل هذه هي الطريقة التي تقنع الشعب العراقي بصورة الديمقراطية الأمريكية؟ وهل إن استعمال القوة المفرطة التي تقصف الناس قصفاً عشوائياً تجعل هذا الشعب يحب أمريكا ويؤيدها، أم أن ذلك سوف يزيد كراهية هذا الشعب ـ ومعه الشعوب العربية والإسلامية ـ لها؟؟

إننا نلاحظ أن هناك دولتين في العالم لا يُسمح للمحاكم الدولية ولا لمجلس الأمن أن تحاكم جنودهما على جرائم الحرب التي يقومون بها ضد المدنيين، هما أمريكا وإسرائيل، ونحن نعلم أن أمريكا عاقبت بعض الدول التي صوّتت لصالح المحاكمة الدولية لجنودها، كما أنها تقف لحماية حليفتها إسرائيل من ذلك كله.. ولذلك، فإنهما لا تخافان من المحاسبة الدولية على كل ما تقومان به من الجرائم في العالم..

إننا نعتقد أنه لا بد لأمريكا التي تتحدث عن العدل في بعض الجرائم التي حدثت في العراق، أن تقدّم نفسها للعدالة على جرائمها في هذا البلد.. وإذا كانت قد أسقطت النظام الطاغي لحسابات مصالحها، فإن ذلك أصبح من الماضي، والمسألة هي: ماذا عن الحاضر والمستقبل؟ وهل إن أمريكا تريد أن تزيد عدد المقابر الجماعية في هذه المرحلة، كما ساهمت ـ بشكل غير مباشر ـ في المقابر الجماعية من خلال تأييدها عميلها صدام لإسقاط الانتفاضة الشعبانية الماضية؟؟

إننا نشعر أنّ هناك تعقيدات حدثت في بعض الأوضاع في العراق، ولكن طريقة المعالجة لن تكون بالأسلوب الأمريكي الوحشي، وإن الإدارة الأمريكية ـ بغبائها السياسي ـ أحرجت حتى العاملين معها، ما أدى إلى إرباك مواقفهم وحيرة تصريحاتهم الغارقة في الضباب، ما عدا بعض الأطراف العراقية غير العربية التي وصفت المعارضة العراقية بـ"المجرمين والإرهابيين"، لأنهم يتحركون من خلال طموحات قومية قريبة للاستراتيجية الأمريكية، مع الأسف؟!

استنكار محاولات إثارة الفتنة

إننا في الوقت الذي نتحدث فيه عن رفض الأساليب الأمريكية في معالجة الواقع العراقي الأخير، أكدنا ونؤكد دائماً رفضنا الحازم للعنف الذي يطال المدنيين العراقيين في مساجدهم وأماكنهم المقدّسة، وفي رموزهم الدينية والمؤسسات الإنسانية، فإن هذا العنف لا يأخذ شرف اسم المقاومة، بل يأخذ اسم الجريمة والإرهاب مهما كانت صفتهم ودوافعهم..

وبهذه المناسبة، فإننا نشجب البيان الصادر باسم "الزرقاوي" ـ الذي لم ينفه ـ والذي يعمل على أساس التخطيط للاعتداء على أئمة المسلمين الشيعة وقياداتهم، ما يفرض على العراقيين جميعاً، ولا سيما إخواننا علماء المسلمين السنّة، أن يرفعوا الصوت عالياً ضد هذه الذهنية الطائفية التي تعمل على أساس تنفيذ المخطط الاستكباري لإيجاد الفتنة المذهبية الحاقدة الجاهلة بين المسلمين..

كما أننا نستنكر محاولات إثارة الفتنة في أكثر من موقع، ومن بينها الأشرطة والكتب التي توزَّع في الكويت، لإثارة الانقسام في الصف الإسلامي، ونريد لإخواننا هناك أن يقفوا صفاً واحداً في وحدة الأسرة الكويتية على أساس الوحدة الإسلامية..

المرحلة الحاضرة: امتحان للجميع

وفي هذا الجو، فإننا نحذِّر ـ أمام هذه الفوضى الأمنية في العراق ـ من الجماعات التي تصطاد في الماء العكر، وتتحرك لتنفيذ مجزرة أربعينية جديدة في كربلاء على صورة المجزرة العاشورائية، ونريد لكل إخواننا أن يكون كل مواطن منهم خفيراً.. ومن جهة أخرى، فإننا ندعو الجميع إلى احترام المواطنين في أنفسهم وأموالهم وأوضاعهم العامة، بأن لا يسمحوا للصوص والمجرمين وأمثالهم بالعبث بالأمن العام، فإن ذلك مسؤولية الجميع، لأن الفوضى لن تكون إلا في خدمة الاحتلال.. كما أننا نهيب بالمخلصين من العاملين في الساحة السياسية والإدارية العراقية أن يقفوا مع شعبهم لا مع المحتلين، فإن المرحلة الحاضرة تمثل الامتحان للجميع.

وتبقى لنا كلمة للعرب والمسلمين، لا سيما على مستوى الأنظمة، حول هذا الصمت المطبق أمام هذه المجازر الأمريكية، على غرار الصمت المماثل أمام المجازر الإسرائيلية، ونتساءل: عن أية قمة عربية مقبلة يتحدثون؟ وعن أيّ مستقبل عربي يتناقشون؟ وعن أيّ إصلاح ديمقراطي يتحدّثون، وعن أيّ عراق يتحاورون؟؟ إن القمة السابقة سقطت بوحي أمريكي، وإن هذه القمة سوف تُعقد بنفس الوحي بعد تغيير ما أُريد له أن يتغيّر لخدمة المصالح الأمريكية.

لبنان: عجز في معالجة الأزمات

أما في لبنان، فإن الواقع الذي يحكمه هو التعايش بين الطوائف، مع بعض التعقيدات التي يثيرها الطائفيون، إلى جانب التعايش مع الأزمات المزمنة، والركود الاقتصادي، وارتفاع أرقام الدَّيْن العام إلى ضعفي الناتج المحلي، وامتداد الضرائب التي يذهب تسعون بالمائة منها لخدمة بعض الأثرياء الذين يقدّم لهم الفقراء ثلاثة مليارات سنوياً، أما الثابت في لبنان، فهو التجاذبات السياسية داخل السلطة التي تأكل استقراره ومصداقيته وإبداعه وحيويته، أما المتغيّر فيه، فهو الإصلاح السياسي والمالي والاقتصادي، الذي لا ينفتح له باب إلا ليُغلق له في مقابل ذلك ألف باب، بفعل إدمان الهدر والصفقات والسرقة التي يتحرك فيها الجراد السياسي والإداري ليأكل الأخضر واليابس..

إن المشكلة هي أن هناك اعترافاً بالعجز عن معالجة الأزمات، والإصرار ـ معها ـ على البقاء، ليكتمل العجز والانهيار، ويبقى الشعب في ملهاة العائليات والحزبيات والشخصانيات باسم الانتخابات، ولينسى جوعه باسم المائدة الغنية بالعصبيات.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية