ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
بدر تبرز قوة الإسلام
في هذا الأسبوع، هناك مناسبتان إسلاميتان: المناسبة الأولى ذكرى معركة بدر، وهي أوّل معركة حصلت بين المسلمين والمشركين، وكانت بعد أن اضطُهد المسلمون من قِبَل المشركين، وهاجروا بفعل هذا الاضطهاد إلى المدينة بعد هجرتين إلى الحبشة، وكان الواقع في شبه الجزيرة العربية آنذاك هو أن الناس كانت تنتظر ما ستؤول إليه المواجهات بين المسلمين والمشركين لتقف إلى جانب الأقوى، وامتنع الكثيرون من الناس عن دخول الإسلام بفعل مصالحهم المرتبطة بالقوة الكبرى، وهي قوة قريش التي كانت تمثل زعامة الشرك.
ولذلك، فقد كانت معركة بدر معركة ذات أهمية كبرى، لأنها فتحت الباب على إبراز قوة الإسلام، حيث بدأ الناس يحسبون حساب الإسلام واحترام موقعه، وكان المشركون في معركة بدر يملكون تفوقاً مادياً على المسلمين، إن لجهة العدد والعدة أو السلاح ووسائل النقل، فكانت الحسابات المادية توحي بأن المشركين سوف ينتصرون على المسلمين، لا سيما أن بعض المسلمين كانوا يعيشون الرعب من قريش، حتى قال بعضهم لرسول الله (ص): "هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت"، ولكن المسلمين الآخرين قالوا له: "يا رسول الله، لن نقول لك كما قال قوم موسى: "إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"، بل نقول لك: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خُضت بنا هذا البحر لخضناه معك".
وهكذا، كانت هذه المعركة التي بدأها رسول الله، في تضرّع لله، حيث نقل عنه أنه كان(ص) يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"، وكان عليّ(ع) يتفقّد رسول الله(ص) في أثناء المعركة، فكان في كل مرة يراه ساجداً وهو يناجي ربه: "يا عليّ، يا عظيم"، وانتصر المسلمون انتصاراً كاسحاً، وانهزم المشركون، وقتل العديد من زعاماتهم، وصدق قول الله تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}، وبذلك أبرزت هذه الموقعة قوة الإسلام كقوّة مناوئة لقوة الشرك.
بالإيمان يتحقق النصر
ونحن عندما نستعيد ذكرى معركة بدر التي عاش فيها بعض المسلمين نقاط الضعف، وعاش فيها بعضهم الآخر نقاط القوة، ولكن نقاط القوة هي التي انتصرت على نقاط الضعف، لا سيما بعد أن أيّدهم الله بنصره وآواهم، وهذا قوله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة}، فإننا قد نأخذ منها درساً في أن الأمة إذا عاشت إيمانها بالله، الذي يؤكد لها إيمانها بنفسها وبمواقع القوة عندها، واستعدّت استعداداً مدروساً من خلال خطة، فإن غلبة القوة المادية لن تنتصر دائماً على مواقع القوة الإيمانية، لأن الإيمان يمكن أن يضاعف من قوة الإنسان، ولذلك أراد الله تعالى من المسلمين أن يكون الواحد منهم بعشرة، ثم عندما تحدث عن الضعف أراد من الواحد منهم أن يكون بمستوى قوة الاثنين.
إننا من خلال إيحاءات موقعة بدر نستطيع أن نقول: إن على الأمة أن لا تسقط أمام القوة المادية التي يملكها الأعداء، وقد رأينا في تاريخنا القريب والبعيد كيف أن الفئة القليلة المزوّدة بالإيمان والإرادة والصبر والصلابة والخطة انتصرت على الفئة الكثيرة، وذلك قول الله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.
الحسن(ع) في كنف النبوّة والإمامة
المناسبة الثانية، هي مناسبة ولادة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، وهو أول وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وقد عاش رسول الله(ص)، في الحسن (ع) أولاً وفي الحسين (ع) ثانياً، الأبوّة لهما، لأنهما وإن كانا ابني ابنته، إلا أنه كان يحسّ بأبوّته لهما خلافاً للمصطلح، ولذلك كان (ص) يقول: "إن هذين ابناي". ونحن نعرف أن النبي (ص) كان يحب الحسن كما الحسين، وقد حدّث الأمة عن مستقبلهما ورفعة قدرهما عندما قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وقال: "الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا"، وينقل "ابن حنبل" في مسنده عن "البرّاء بن عازب" أنه قال: رأيت رسول الله (ص) واضعاً الحسن على عاتقه وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبّه"، ويقول الرواة إن الحسن (ع) كان أشبه الناس برسول الله (ص) خلقاً وسؤدداً وهدياً..
وعندما ننطلق إلى سيرة الإمام الحسن (ع)، فإننا نجد في سيرته عدة محطات، المحطة الأولى هي في حياته مع جده رسول الله (ص) الذي كان يحتضنه ويحدثه، كما عاش مع أمه السيدة الطاهرة العظيمة الكبيرة القدر والمعصومة بعصمة الله الزهراء (ع)، وعاش مع أبيه علي(ع)، فكان ينطلق معه في كل عمله وتجاربه ومواقفه، حتى أنه خرج مع أبي ذر الغفاري (رحمه الله) مودّعاً مع أبيه عندما نفي إلى الربذة، محتجّاً على هذا القرار الجائر آنذاك، وكان عليّ (ع) يعتمد عليه في المهمات الصعبة أثناء خلافته عندما انتفضت عليه بعض المواقع.
الحسن(ع) في موقع الخلافة
وعاش الإمام الحسن (ع) بعد أبيه ليبايعه المسلمون بالخلافة، ولكن جيشه الذي هو من بقايا جيش أبيه كان جيشاً غير متوازن، حتى أن الكثيرين من قادته أرسلوا إلى معاوية: إن شئت جئناك بالحسن حياً أو ميتاً، كما أرسل معاوية الكثير من الجواسيس لإرباك الجيش، لذلك رأى الإمام الحسن (ع) أن هذا الجيش ليس هو الجيش المؤهَّل ليخوض به الحرب مع معاوية، ودرس المسألة في مصلحة المسلمين، فكانت الهدنة التي تمثل الصلح، ولم يعطِ الإمام الحسن (ع) الشرعية لخلافة معاوية، ولكنه أراد أن يحقن دماء المسلمين عندما رأى أن الحرب لن تؤدي إلى نتيجة في مصلحة المسلمين، وفي مصلحة خط الحق، لأن تلك المرحلة لم تكن مشابهة لمرحلة الإمام الحسين (ع).
كان الإمام الحسن (ع) في أخلاقه في منتهى الفضائل العليا الكبرى، ويُنقل عنه أنه قاسم الله تعالى في ماله مرتين، يعني أنه أخرج نصف ماله وتصدّق به في أوجه الخير، وحجّ ماشياً خمساً وعشرين مرة، وكان يمثل التواضع وهو في أعلى مواقع الهيبة، حتى أنه مرّ يوماً على فقراء يأكلون كسيرات من الخبز في الطريق، فدعوه إلى أن يتغدّى معهم، فنزل وهو يقول: "إن الله لا يحب المتكبّرين"، فأكل معهم ثم دعاهم وأكرمهم وكساهم. وقد مثّلت أخلاقه المثل الأعلى في الأخلاق الإسلامية في الصفح عمّن أساء إليه، وينقل أن شامياً لقي الإمام الحسن (ع) وهو مع أهله وأولاده، وبدأ يسبّ الإمام الحسن(ع) تأثّراً بما حشده معاوية في وجدان أهل الشام ضد عليّ (ع) وبنيه، والإمام الحسن (ع) ينظر إليه نظرة رأفة ورحمة، ثم دعاه إلى بيته، وخرج هذا الرجل وهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
الحضّ على التشاور
ونحن في ذكرى الإمام الحسن (ع) نحاول أن نلتقط بعض الكلمات التي نقلت عنه، حتى نعيش مع توجيهاته ووصاياه لنهتدي بها في حياتنا، لأن كلام أئمة أهل البيت (ع) هو كلام رسول الله (ص)، فمن بعض كلماته المروية عنه: "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، أي أن لا يستبدّ أحد برأيه، بل أن يعيش الشورى مع الناس الذين يملكون العقل والشورى في ايّ أمر من الأمور العامة أو الخاصة، لأن كل واحد قد يرى القضية من خلال زاوية، فإذا كانت الشورى تلاقحت الأفكار وأمكن أن يصل الجميع إلى النتائج الفضلى، وهذا ما جعله الله تعالى طابع المجتمع الإسلامي عندما قال: {وأمرهم شورى بينهم}.
وكان الإمام الحسن (ع) ينصح بعض أولاده وهو يوجهه كيف يختار أصدقاءه وإخوانه الذين يبادلهم العيش والتعاون، فيقول (ع): "يا بني، لا تؤاخِ أحداً حتى تعرف موارده ومصادره"، ادرسه في خلفياته وامتداداته، فإذا عرفته في سرّه وعلانيته، في علاقاته وسلوكه، ورأيت فيه جانب الخير والعدل والرشد فآخه، وإن لم تعرف ذلك فعليك أن تحذر منه وتحتاط لنفسك، لأن الصديق يمكن أن يترك تأثيرات سلبية إن كان سلبياً، أو إيجابية إن كان إيجابياً، بالنسبة إلى أصدقائه.
التأكيد على القيم الإسلامية
وكان (ع) يوجّه بعض أصحابه ويؤكد لهم القيم الإسلامية، فيقول (ع): "يا ابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً ـ فالعبادة ليست في كثرة الصلاة والصيام، ولكنها الخضوع المطلق لله، ومراقبته لك في كل أمورك، وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) عندما سأله عليّ (ع) عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فقال (ص): "أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله" ـ وارضَ بما قسم الله تكن غنياً ـ لأن القناعة مال لا ينفد، فإذا قنع الإنسان بما رزقه الله وشعر بالغنى عن الآخرين كان غنياً ـ وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ فالمسلم هو الذي يعطي جيرانه من حسن الجوار والرعاية وكف الأذى كل ما يحتاجون إليه من ذلك ـ وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً ـ فالعدالة هي أن ترضى للناس ما ترضاه لنفسك وتكره لهم ما تكره لها، وهذا قول عليّ(ع): "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها"، كما هو قول رسول الله (ص) قبل ذلك: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها ـ إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً، يابن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك من الآخرة، فإن المؤمن يتزوّد ـ يأخذ من دنياه زاداً لآخرته ـ والكافر يتمتع"، والله تعالى يقول: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى}.
وجاء أحد أصحاب الإمام الحسن (ع) إليه، وهو في المرض الذي توفي فيه، فقال: "عظني يابن رسول الله"، فقال (ع) له: "استعدّ لسفرك، وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كانت خازناً فيه لغيرك، وأعلم أن الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت منه كما أخذت في الميتة، وإن كان العتاب فالعتاب يسير، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ".
هذه وصايا الإمام الحسن بن عليّ(ع)، نعيشها في يوم ولادته، لنعرف كيف نعيش دنيانا، وكيف نستعد لآخرتنا، وهذا هو منهج أهل البيت (ع) الذي هو المنهج الأصيل للإسلام، لقد علمونا كيف نسير في الخط المستقيم للإسلام من خلال كل ما يطهّرنا ويذهب الرجس عنا، وقد قال الله تعالى: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم الخاصة والعامة بما يتصل بمسؤولياتكم الشخصية أمام الله ، وبما يتصل بمسؤولياتكم العامة في كل قضايا الأمة والمستقبل، لأن كل مسلم ومسلمة يتحمل بمقدار طاقته وظروفه مسؤولية الأمة كلها، لتتكامل الأمة في أفرادها في سبيل إعطاء القوة لقضاياها الكبرى، ولتتوحّد الأمة بكلِّ فصائلها وتنوّعاتها ومذاهبها وقومياتها أمام القضايا الكبرى التي تمثل الخطر على الإسلام والمسلمين، فإن المرحلة لا تجيز لأحد أن يكون حيادياً بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وقد قالها أمير المؤمنين (ع) لولديه ولمن بلغه كتابه: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".
هذا هو شعار الإسلام والأئمة من أهل البيت (ع) في الخط الإسلامي الأصيل، ونحن ـ كأمّة ـ نعيش الكثير من ظلم الظالمين واستكبار المستكبرين، الذين يعيثون في الأرض فساداً، ويخططون لتمزيقنا ومصادرة قضايانا وثرواتنا ومواقعنا، ونحن مشغولون نحدّق بما عندنا ولا ننفتح على الأفق الواسع الذي تتحرك فيه العواصف، وتنطلق فيه الرعود والقواصف، فتعالوا لنرى ماذا هناك:
الانتفاضة: استهداف الأمن الصهيوني
يتابع الفلسطينيون جهادهم في منطقة الأمن الصهيوني في القدس الغربية بالعمليات الاستشهادية، بالرغم من استنكار الدول الكبرى ـ وفي مقدمتها أمريكا ـ والأمم المتحدة من خلال أمينها العام، بحجة اعتبار العملية "إرهابية لأنها تستهدف المدنيين"، ولكن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن فلسطين كلها تحوّلت إلى ساحة حرب، وأن العدو قد حاصر الشعب الفلسطيني، فلم يترك له أيّ خيار في تخفيف الضغط عنه أمام الطائرات والدبابات والأسلحة المتنوّعة التي قدّمتها أمريكا للعدو لقتل الفلسطينيين..
وقد أكدنا أكثر من مرة أن استشهاديي الانتفاضة لا يستهدفون المدنيين بل الأمن الصهيوني، وقد أعلنوا لليهود بأنهم إذا أرادوا الحصول على الأمن المتوازن فعليهم الانسحاب من الأراضي المحتلة، والدخول في مفاوضات حرّة حول المستقبل، ولكن الصهاينة أرادوا من الانتفاضة إلقاء سلاحها من دون قيد أو شرط، والاعتراف بالهزيمة..
وهذا ما أرادته أمريكا ـ ومعها اللجنة الرباعية ـ التي تفرض شروطها على الفلسطينيين دون الصهاينة، وإلا فإنهم متّهَمون بالإرهاب!! والقضية عند الشعب الفلسطيني هي متابعة الانتفاضة بكل فصائلها ـ ومعها الشعب كله ـ الذي اخترق حاجز الخوف وتمرّد على كل وسائل الضغط الأمريكي، وبدأ يهزأ بالاحتجاجات الدولية المليئة بكلمات السباب، كما حدث في تعليق بعض الجهات الدولية على العملية البطولية في "الخليل" التي استهدفت العسكريين من جنود العدو، ولكن هذه الجهات صدّقت الإعلام الصهيوني الذي أطلق الكذبة الخبيثة بأن القتلى والجرحى من المصلّين..
إن المشكلة هي أن الفريق الدولي المرتبط بإسرائيل يرى حركة التحرير الفلسطيني إرهاباً، بينما يرى المجازر الصهيونية دفاعاً عن النفس، وهذا منطق لا يحترمه أيّ شعب متحضّر، ولذلك فلا بد من إسقاطه في النفايات، وستبقى القافلة تسير بالرغم من كل الأصوات التي تعوي وراءها.
الحلف الأطلسي يعمل لحساب الاستكبار
وفي جانب آخر، هناك اجتماعان في هذه الأيام، أحدهما دولي وهو اجتماع الحلف الأطلسي الذي لم يؤسَس لحماية المستضعفين، ولا سيما من العالم العربي والإسلامي، بل أعلن القائمون عليه أن "العدو الجديد هو الإسلام"، لأنه يمثّل الشعوب المتحركة بإرادة الحرية لحماية اقتصادها من عبث المستغلين الذين يصادرون ثروات الشعوب الضعيفة من أجل إرضاء شعوبهم، ولحماية سياستها وأمنها من ضغط سياسات وأمن الدول المستكبرة التي تسعى لتحويلها إلى هامش لها من دون أصالة أو استقلال..
وقد لاحظنا أن أمريكا التي تمثل القيادة العليا لهذا الحلف من الناحية الواقعية، دعت على لسان رئيسها دول الحلف للمساهمة بالحرب التي تقودها أمريكا ضد العراق أو ضد ما تسمّيه الإرهاب، من دون اعتراض أو مناقشة.. إن مشكلة هذا الحلف أنه يضم بعض الدول الصغيرة، ولكنه في موقعه القيادي يعمل لحساب الدول الكبرى ومصالحها الحيوية، ليكون المستضعفون من تلك الشعوب مجرد جيوش للدفاع عن المستكبرين، كما كان يحدث في عهد الاستعمار عندما كانت بعض الشعوب الإفريقية تقاتل في العالم العربي لحساب بعض الدول الكبرى. لذلك، فإننا لا نأمل خيراً من هذا الحلف أبداً، وعلينا أن نحذر منه بشكل دقيق.
استعادة العنفوان العربي
أما الاجتماع الثاني فهو اجتماع لجنة المتابعة العربية في دمشق، تحت عنوان "عمل مشترك تجاه فلسطين والعراق".. وتعليقنا على ذلك هو أن الشعوب العربية تأمل أن يكون المسؤولون العرب، ولا سيما وزراء الخارجية، في مستوى القوة السياسية والدبلوماسية الضاغطة، ولا سيما بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت ضغط المجازر الإسرائيلية بعد حصول العدو على الضوء الأخضر والحرية الواسعة من أمريكا، وعلى الموقف المائع من قِبَل اللجنة الرباعية الدولية..
وعلى هؤلاء الوزراء العرب ـ ومِن ورائهم المسؤولون العرب الكبار ـ أن يستمعوا إلى صرخات الأمهات الثكالى والأسَر المشردة من بيوتها وهي تصرخ أين العرب!! وأن يستعيدوا ـ ولو لمرة واحدة ـ العنفوان العربي، حيث لا يزالون ـ في الانطباع العام ـ في موقف الفئة الخائفة المذعورة من الإدارة الأمريكية، بحيث تحوّلت الأجهزة الأمنية العربية إلى ملاحقة كل الأحرار تحت تأثير الاتهام بالإرهاب، وإلى إعطاء الحرية للطائرات الأمريكية أن تقصف السيارات المدنية في بلادها لمجرد الاتهام بالإرهاب..
رفضٌ سوري للإملاءات الأمريكية
إن أمريكا تلاحق كل مواقع القوة الموجَّهة ضد إسرائيل في العالم العربي، ولذلك طالبت سوريا بإغلاق مكاتب حركة الجهاد الإسلامي بعد عملية الخليل.. وإننا ـ بهذه المناسبة ـ نقدّر لسوريا موقفها القويّ المتّزن الرافض لهذا الطلب، محمّلة أمريكا في تأييدها للصهاينة كل ما يحدث في فلسطين، ونريد للعرب الآخرين أن يقتدوا بهذا الموقف الشجاع الرائد، لتعرف أمريكا أن الدول العربية ليست هي التي تتلقى التعليمات، بل هي التي تؤكد الموقف.
الاستقلال يتحصّن بالوحدة واستكمال التحرير
أما في لبنان، فإننا نلتقي في هذا اليوم بذكرى الاستقلال الذي حصل لبنان فيه على استقلاله الوطني بالوسائل السياسية التي لم تخلُ من حوادث أمنية، وقد استطاع الشعب اللبناني ـ بفضل مقاومته الشجاعة القوية في عملياتها ومواقفها النوعية ـ أن يقوّي الاستقلال ويمنحه دماً جديداً هو دم الشهادة الذي أسقط عنفوان العدو، وطرد احتلاله وأخرجه من أكثر الأراضي اللبنانية من دون قيد أو شرط..
ثم تابع ذلك بالتصدي لاحتلال المياه، ولا زال يتابع مسيرته لتحرير باقي الأرض في مزارع شبعا، واستكمال مهمة الاستعادة الشرعية لمياه الوزاني في الريّ، والتحدي للأمم المتحدة أن تكون في مستوى موقعها في القرار الحاسم الذي لا بد أن يؤكد حق لبنان في استثمار مياهه بحسب الشرعية الدولية..
إننا نقدّر هذا الموقف الوطني الموحَّد للدولة والمقاومة والشعب كله، لتأكيد هذا الاستقلال الذي يعبّر عن الإرادة الحديدية لمواجهة كل محتل وغاصب، في الوقت الذي ينفتح على عالمه العربي في عملية تكامل وتعاون من خلال وحدة الموقف والمصير، من دون إفساح المجال للذين يصطادون في الماء العكر، ويحاولون إثارة القلق والتمزق والعصبية الطائفية، وتحريك الغرائز وحالات التشنّج، في الوقت الذي يواجه فيه البلد أقسى التحديات المعيشية والأزمات الاقتصادية التي هي بحاجة إلى المزيد من الحوار الموضوعي الهادئ الذي يفتح القلوب على المحبة، والعقول على الموضوعية، والواقع على قضايا المصير..
إنّ المطلوب ليس أن نضع العصي في الدواليب كشروط للحوار، وأن نبقى في الجدل العقيم في تفسير الحرية والوفاق الوطني.. إن القضية كل القضية هي أن نحاور ونحاور حتى نصل إلى الشاطئ الأمين، وهو متابعة الانتصار من أجل امتداده، ليبقى لبنان رمزاً للانتصار في السياسة والثقافة والتحرير، بدلاً من أن يكون ساحة للفوضى التي تجرّ إلى الهزيمة. |